ثمّ اختلف هؤلاء فى متعلّق الزهد ، فقالت طائفة : الزهد إنما هو فى الحلال لأن ترك الحرام فريضة. وقالت فرقة : بل الزهد لا يكون إلّا فى الحرام ، وأمّا الحلال فنعمة من الله على عبده ، والله تعالى يحبّ أن يرى أثر نعمته على عبده ، فيشكره على نعمه ، والاستعانة بها على طاعته واتخاذها طريقا إلى جنّته أفضل من الزّهد فيها والتّخلى عنها ، ومجانبة أسبابها.
والتحقيق أنّها إن شغلته عن الله فالزّهد فيها أفضل ، وإن لم تشغله عن الله بل كان شاكرا فيها فحاله أفضل.
وقد زهّد الله تعالى فى الدّنيا ، وأخبر عن خسّتها ، وقلّتها ، وانقطاعها وسرعة فنائها ، ورغّب فى الآخرة ، وأخبر عن شرفها ، ودوامها ، وسرعة إقبالها. والقرآن مملوء من ذلك :
قال تعالى : (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكاثُرٌ)(١) إلى قوله : (إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ) ، وقال : (إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ)(٢) إلى قوله : (لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) ، وقال : (وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا)(٣) إلى قوله : (ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً) ، وقال : (وَلَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ)(٤) إلى قوله : (وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ) ، وقال : (وَلا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ)(٥) إلى قوله : (وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقى).
__________________
(١) الآية ٢٠ سورة الحديد
(٢) الآية ٢٤ سورة يونس
(٣) الآيتان ٤٥ ، ٤٦ سورة الكهف
(٤) الآيات ٣٣ ـ ٣٥ سورة الزخرف
(٥) الآية ١٣١ سورة طه