يقالان على وجهين : أحدهما أنهما مصدران لختم وطبع ، وهو تأثير الشيء كنقش الخاتم والطابع. والثاني الأثر الحاصل على الشيء ، ثم إنّه يتجوّز بذلك تارة عن الاستيثاق من الشيء والمنع منه اعتبارا بما يحصل من المنع بالختم على الكتب والأبواب ، نحو قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ). وتارة عن تحصيل أثر شيء اعتبارا بالنقش الحاصل. وتارة يعتبر منه بلوغ الأمر ، ومنه : ختمت القرآن ، أي بلغت آخره.
وقيل في قوله : (خَتَمَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ) إشارة إلى ما جرت به العادة من أنّ الإنسان إذا تناهى في اعتقاد باطل أو (١) ارتكاب محظور ولا (٢) يكون منه تلفّت بوجه إلى الحقّ يورثه ذلك هيئة تمرّنه على استحسان المعاصي ، فكأنما ختم بذلك على قلبه ، وعليه : (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ)(٣). ومثله استعارة الإغفال في قوله : (أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا)(٤) ، واستعارة الكنّ في قوله : (وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً)(٥) ، واستعارة القساوة في قوله : (قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً)(٦). وقرىء : «قسيّة» (٧).
وهل الختم مستول على الأسماع ؛ فيكون الوقف على سمعهم ، أوليس مستوليا عليها. وفي قراءة نصبها يجوز أن يستولي عليها حسبما بينّا ذلك في «الدرّ» و «التفسير الكبير». وبينّا هناك وجه جمع القلوب والأبصار وإفراد السمع. وهذه الآية من أعظم آي القرآن وأدلّها على أنّ الله تعالى خالق كلّ شيء من خير أو شرّ ، نفع أو خيّر ، إيمان أو كفر.
ولمّا ضاق خناق المعتزلة بها تأوّلوها تأويلات ضعيفة حسبما بينّاه في موضعه ، حتى قال الجبّائيّ (٨) : «يجعل الله ختما على قلوب الكفّار ليكون دلالة للملائكة على كفرهم فلا
__________________
(١) وفي الأصل : و.
(٢) وفي الأصل : فلا.
(٣) ١٠٨ / النحل : ١٦.
(٤) ٢٨ / الكهف : ١٨.
(٥) ٢٥ / الأنعام : ٦. الأكنة : الأغطية الكثيرة.
(٦) ١٣ / المائدة : ٥.
(٧) قرأ يحيى ورواه الضبي بضمّ القاف. وقرأ بعضهم بكسر القاف مع السين (مختصر الشواذ : ٣١).
(٨) هو أبو على محمد بن عبد الوهاب الجبائي صاحب مقالات المعتزلة. ولد سنة ٢٣٥ وتوفي سنة ٣٠٣. وهو منسوب إلى «جباء» قرية من قرى البصرة. وخلفه ابنه أبو هاشم (اللباب في معرفة الأنساب : ١ / ٢٥٥).