ويدلك على وجودها مع الغفلة غير المستولية حصول العمل مترتبا على أتم نظام مع انشغال النفس في اثنائه بغيره كما هو المشاهد من أحوال المصلين وغيرهم من ذوي الأعمال ، وكما في حال الذاهب في حاجة في طريق ذي منعرجات ، فإنه قد يفكر بغيره ومع ذلك يصل إلى مقصده ، فإن الغفلة غير المستولية لا تمنع الجوارح من أداء وظيفتها التي وجهتها النفس إليها.
نعم : مع الغفلة المستولية يختل النظام ، وضابط الاستيلاء هو الانصراف التام عما قصده في أول الأمر ، بحيث لو سئل : ما تصنع؟ تحير في الجواب ، ريثما يعود الفكر إلى مستقره.
فانتظام العمل مع الغفلة كاشف عن وجود الإرادة بالضرورة ، لأنه فعل اختياري ، وتكرره كذلك يمنع من كونه صدفة.
ومما ذكرناه يتضح أن إرادة الكل إرادة لأجزائه وأن صدور الأجزاء عن إرادة واختيار لا يفتقر إلى إرادة تفصيلية في قبال إرادة الكل (١).
وأما لحاظها في مقام الجعل فيمكن استفادته من قوله (ع) في مصحح بكير بن أعين وهو الرواية رقم (٥) هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك فإن جعل الأذكرية مناطا للحكم ظاهر في أن الواقع ملحوظ ، وفيه إشارة إلى أن العادة تقتضي الاتيان بالأجزاء مترتبة ، وإذا استفدنا ذلك منها كانت حاكمة على سائر الروايات لأنها صالحة لشرحها وتفسيرها. وقريب منها قوله (ع) في
__________________
(١) ومما ذكرناه يظهر معنى القول باستدامة النية الحكمية كما أفتى به جمع من الفقهاء ، ومنه أيضا يظهر الوجه فيما كنا نسمعه من الأستاذ الحكيم مد ظله من أن المقدار الذي دل عليه الدليل من اعتبارها هو كونها علة في الحدوث فقط دون الحدوث والبقاء.
وبالجملة : لا إشكال في صحة الصلاة المأتى بها مع انشغال المخيلة في أثنائها بغيرها ، وإلا كانت أكثر عبادات الناس باطلة ، ولو كانت باطلة لنبه الفقهاء عليه ، مضافا إلى فحوى النصوص الدالة على أنه ليس للعبد من صلاته إلا ما أقبل به. وكون الصلاة فعلا اختياريا وكونها صحيحة مع الغفلة غير المستولية وكان حين يكشف إما عن كفاية استمرار الإرادة حكما ، وإما عن اعتبارها حدوثا فقط ، وإما عن أمر ثالث وهو اعتبارها بالنسبة للكل ، وتكون الأجزاء مرادة إجمالا وملحوظة تبعا ، وتكون الإرادة قد وجدت عند المباشرة في الفعل بالنسبة لجميع الأجزاء والشرائط على نحو ما فصلناه ويحتمل رجوع المحتملات الثلاثة إلى أمر واحد ، ويكون الاختلاف لفظيا.