د ـ وأما قوله سبحانه وتعالى : (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى * فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى * وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى) فهو الآخر يبعد خطاب الآية عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم ، فلئن فسّرنا الاستغناء بالحالة الاجتماعية التي تعبّر عن الثراء المالي والترف الطبقي ، فما كان من خلق رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم أن يحفل بالمال وأصحابه أما كان هو من قال لعمه أبي طالب (رضوان الله تعالى عليه) حين جاءت قريش تعرض عليه الأموال وما هو أعظم منها : والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني ، والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته؟! ولا كان أصحاب الأموال هم أصحاب القيمة الاجتماعية القصوى التي لا يجد الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم بدّاً من تخطيّهم ، خاصة واننا إن قلنا بأن سورة عبس قد نزلت في مكة فلقد كان الرسول في ذلك الوقت يملك من مال خديجة (صلوات الله عليه) ما يفوق امكانيات من سمّوهم في الروايات ، هذا فضلاً عن استقذاره لطبيعة المال الذي كان هؤلاء يتملكونه فبعضه من تجارة الخمور وأغلبه من الربا والتجارات التي كان الرسول بأبي وأمي يأنف منها ، أما إن قلنا بأن سورة عبس مدينة ، فإن الأمر يغدو واضحاً أكثر ، فأي أهمية للمال وقد عرف عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم عدم اهتمامه بالمال في حال مطاردته من قبل قريش ، في الوقت الدي غدا في المدينة هو المطارد لها!!
ولئن فسرنا الاستغناء المشار إليه في الآية بالحالة الأخلاقية ، ولعله هو الأوفق بسياق الآية الكريمة ، فهو أمر أبعد ما يكون عن الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم كيف؟ وقد وصف القرآن المستغنين بطريقة مزرية فقال : ( وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى ) (١)
وقد عادت الآية لتذكر ببعد الخطاب عن الرسول حينما تحدّث عن عدم مبالاة المستغني عن تزكية الأعمى وطالب الزكاة ، وقد عرفنا أن التزكية هي من أعمال الرسول صلىاللهعليهوآلهوسلم الرئيسية ، ولا يعقل تخلية عن عمله هذا ، وإلا
____________________
(١) الليل : ٨ ـ ١٠.