ولو دققنا النظر في أحد الجانبين ، وليكن جانب طريق التقوى (١) ، وتساءلنا عن مصاديق الجعل المخصص لسالكي طريقه؟ فسنجد في البداية أن الطريق باعتباره طريقاً طويلاً على مستوى السمو ، إذ لا حد له ليقف عنده المتقي ، فإن الجعل الإلهي لم يك محدوداً هو الآخر ، لا في خصوصيته النوعية فلم يخصصه في نوع معين من التخصيصات ، ولا في حدوده الكمية ، فهو إن تحدّث عن جعل المخرج للمتقي ومنحه الرزق ، فإنه لم يتحدث عن مخرج محدد ، ولا عن رزق محدد ، بل هو يمتد إلى كل المساحة التي يكون فيها سبب لحاجة المتقي إلى ما جعله الله ، سواء كان تحديد هذه الحاجة مرتبطاً بالمتقي نفسه ، أو كان بمثابة تفضل إلهي عليه ، ولكن نظراً لخصيصة العدل الإلهي فإنه قد جعل لكل شيء قدراً ، كما قال الله سبحانه : (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) (٢) مما يعني أن السائرين على طريق التقوى ليسوا سواء في يجعل لهم ، وإنما يرتبط هذا الجعل في نوعيته وحجمه بما يحقق هذا الإنسان من شرائط التقوى والتزاماتها ، أو قل : فإن الفاعل الإلهي في جعله يتوقف مداه على مقدار ما يتحمله القابل الإنساني ، فالله الذي هو عطاء مطلق وكرم مطلق ليس هو من يحدد حجم ما يأخذه الإنسان من هذا العطاء ومن هذا الكرم ، بل إن الإنسان من خلال قابلياته هو من يحدد كم في مستطاعه أن ينال من هذا الكرم والعطاء ، فالبحر لا يحدد للمغترف كم ينتهل منه ، بل المنتهل من خلال ما يجلبه من وعاء للانتهال من ماء البحر هو من يحدد كمية ما يغترف من ماء البحر.
ويشير القرآن في متون الآيات إلى مفردات كثيرة من مفردات هذا الجعل ، وما يهمنا في مبحث العصمة الآية الكريمة : (أَوَمَنْ كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ
____________________
(١) سيأتي حديثنا عن الجانب الثاني في المباحث اللاحقة إن شاء الله تعالى.
(٢) الطلاق : ٢ ـ ٣.