ومن الواضح إن النور الإلهي الذي يمشي به المؤمن والذي تتحدّث عنه الآيات المارة إنما هو حالة علمية بحقائق الأشياء ، فلا يتوقف عند بعد أو أكثر من أبعادها وإنما يشمل كل ما تشتمل عليه هذه الأشياء غاية ما في الأمر أن يعمل الإنسان على إزالة الحجب التي تعيق امتداد هذا النور ، مثله مثل المصباح حين تضيء به غرفة ما ، فسيعم النور دفعة واحدة كل اجزاء الغرفة حتى لو لم تتعمد إيصال النور إليها ، وما سيبقى مظلماً هو ما بقي خلف الحجب التي حالت دون وصول هذا النور ، وهذا العلم من سنخ العلم الذي تتحدّث عنه الآيات الكريمة : (كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) (١) ، فمن المعلوم أن رؤية الجحيم المطروحة هنا في الآية الأولى ليست هي رؤية عالم الآخرة ، بل هي رؤية عالم الدنيا ، ولا تحصل هذه الرؤية إلا بعلم اليقين ، وهو صورة متقدمة من صور النور الإلهي ، ووفق هذه الآية فإن الدنيا تحفّ بها عوالم أخرى وما يحجب العلم عن تلك العوالم ويجعل الإنسان قاصراً عن رؤيتها هو عدم حصول هذا العلم ، أما مع حصوله فإن الصورة الكلية لما يحفّ بهذه الدنيا سوف تكون مرئية لمن له علم اليقين ، وكلما كانت كيفية هذا العلم أكثر تقدماً كلما امكن هذا الإنسان من رؤية حقائق ما يجري ويحفّ حوله.
وبطبيعة الحال فإن إمكان الخطأ في هذه الرؤية أو الزلل أو نسيانها تغدو منعدمة ، لأن الخطأ والنسيان والزلل هي صور من عالم الظلمات وفق تعبير علماء الأخلاق ، ومهمة هذا النور هو الخروج بالإنسان من الظلمات (الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) (٢) ولهذا فمن أخرج من هذه الظلمات واعتنق هذا النور فما من مجال لتعلّق عالم الظلمات ومفرداته به ، اللهمّ إلاّ أن ينسلخ من عوالم
____________________
(١) التكاثر ٥ ـ ٧.
(٢) إبراهيم : ١.