وليس في حكم العقل أيضا ما يخالف ذلك ، بل قد عرفت أنّه مستقلّ في الحكم بكفاية العلم الإجمالي في تنجّز التكليف وتوجّه الخطاب بالاجتناب عن المعلوم بالإجمال بالفعل ، فيعصى بارتكابه ويعاقب عليه وليس في الشرع أيضا ما يدلّ على خلاف ذلك ، إذا أقوى ما تمسّك به في المقام على جواز الارتكاب قوله عليهالسلام : « كلّ شيء فيه حلال وحرام فهو حلال لك ... » (١) إلى آخره ، وقوله أيضا : « كلّ شيء لك حلال حتّى تعلم ... » (٢) إلى آخره ، وقد عرفت الحال فيهما.
وهذا كلّه هو معنى قولنا ـ عند الاستدلال على كون المعلوم بالإجمال مع كونه حراما في الواقع حراما في الظاهر وبالفعل ـ : « لنا : نفس الخطابات الواردة في تحريم العناوين المحرّمة » ومرجعه إلى التمسّك بوجود المقتضي لحرمته فعلا وفقد المانع من اقتضائه.
وقضيّة ذلك حرمة مخالفته بعنوان القطع ، على معنى أنّه يقبح على المكلّف بعد كونه مخاطبا بالاجتناب أن يخالفه من غير عذر وهو قاطع بالمخالفة ، بل يقبح على الشارع أيضا أن يرخّص له في المخالفة بتجويزه الارتكاب ، لأنّه تفويت لمصلحة الواقع وإلقاء للمكلّف في المفسدة المقتضية للحرمة من غير عذر ، ونقض للغرض من جعل الحرمة الواقعيّة عملا بمقتضى المفسدة الواقعية صونا للمكلّف من الوقوع فيها.
وإلى ذلك ينظر ما قد يقال في الاستدلال على منع ارتكاب الشبهة المحصورة دفعة وتدريجا من أنّ الشارع لو جوّز الارتكاب دفعة أو تدريجا لزم عليه مخالفة الحكمة المقتضية للحرمة المودعة في الحرام الواقعي ، وهو قبيح عقلا لا يجوز صدوره منه تعالى شأنه.
فإن قلت : إنّ القبح إنّما هو في ترخيص الشارع في مخالفة الواقع من حيث إنّه مخالفة الواقع ، وأمّا لو جعل للعالم بالإجمال من حيث كونه عالما بالإجمال حكما ظاهريّا يلزم من العمل به مخالفة الحكم الواقعي فلا قبح فيه ، كما لا قبح في جعله الحكم الظاهري للجاهل بوصف أنّه جاهل ، وهو جواز ارتكاب المشتبهات في الوقائع المشتبهة وإن لزم من العمل به مخالفة الواقع في بعض الأحيان.
قلت : إنّما يحسن جعل الحكم الظاهري وإن خالف الحكم الواقعي في موضوع العذر للمكلّف المعذور لا مطلقا ، كالجاهل بالحكم الواقعي ، وكما في محلّ التقيّة وغيرها من
__________________
(١) الوسائل ١٢ : ٥٩ الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، الحديث الأوّل.
(٢) الوسائل ١٢ : ٦٠ الباب ٤ من أبواب ما يكتسب به ، ح ٤.