وعلى الثاني لا وجه لاستثناء مقدار الحرام ، وعلى الأوّل لزمه الالتزام بوجوب اجتناب الجميع لما ذكرناه.
وأمّا الثاني : فلمنع تحريم تحصيل العلم بارتكاب الحرام الواقعي حيث لا دليل عليه من عقل ولا نقل ، وإنّما المحرّم هو نفس الارتكاب في موضع العلم بالمحرّم الواقعي ، ولا ينافيه ما قدّمناه من حرمة المخالفة القطعيّة ، إذ ليس معناه حرمة القطع بالمخالفة على أن يكون معروض الحرمة هو القطع ، بل معناه حرمة المخالفة لمن يقطع بها.
وقد عرفت أنّه لا يتفاوت الحال في قبحها عند العقل بين قطعه بتحقّقها حال الارتكاب وقطعه بتحقّقها في أحد الارتكابات.
وبقي من أقوال المسألة خامسها ، وهو القول بوجوب التخلّص عن الحرام المشتبه بالحلال بالقرعة ، استنادا إلى ما ورد من عموم « القرعة لكلّ أمر مشكل (١) » وخصوص ما ورد في قطيع الغنم عن أبي الحسن الثالث حين سئل عن مسائل ، منها عن رجل أتى إلى قطيع غنم فرأى الراعي ينزو على شاة منها ، فلمّا أبصر صاحبها خلّى سبيلها فدخلت بين الغنم ، كيف تذبح؟ وهل يجوز أكلها أم لا؟ فأجاب عليهالسلام : إن عرفها ذبحها وأحرقها ، وإن لم يعرفها قسّم الغنم نصفين وساهم بينهما ، فإذا وقع على أحد النصفين فقد نجى النصف الآخر ، ثمّ يفرّق النصف الآخر ، فلا يزال كذلك حتّى يبقى شاتان فيقرع بينهما ، فأيّهما وقع السهم لها ذبحت واحرقت ونجى سائر الغنم (٢) »
وفيه : أنّ مفاد هذا الخبر حكم مخالف للقاعدة فيقتصر فيه على مورده ، وليس فيه عموم ولا إطلاق يوجب التعدّي إلى غيره.
وأمّا عمومات القرعة فهي روايات ضعاف فلا يسوغ العمل بها إلاّ مع جابر لأسانيدها ، ولا يكون إلاّ عمل الأصحاب ، وهو وإن كان ثابتا في الجملة إلاّ أنّهم لم يعملوا بعمومها بالقياس إلى جميع الموارد ، فكما أنّ عملهم في الجملة جابر لضعف السند فكذلك تركهم العمل بعمومها موجب لضعف الدلالة على العموم ، فهي موهونة بذلك.
والحاصل : أنّ الخبر الضعيف المنجبر بعمل الأصحاب يجب الاقتصار فيه على القدر المتيقّن من مورد الجابر وليس إلاّ بعض الموارد ، فالقاعدة في الشبهة المحصورة تقتضي وجوب الاجتناب عن الجميع إلاّ ما خرج عنها بالدليل.
__________________
(١) الوسائل ١٨ : ١٨٧ الباب ١٢ من أبواب كيفيّة الحكم ...
(٢) تحف العقول : ٤٨٠.