الامتنان برفعها في هذه الامّة لا ينافي حصول مثله برفعه في الامم السابقة أيضا ، لجواز كونه تعالى قد منّ الله على جميع عباده برفع المؤاخذة عنهم في هذه التسعة ، فلا صارف للرواية عن ظهوره في رفع المؤاخذة.
وبما قرّرناه في دفع السؤال ظهر أنّه لا حاجة في دفعه إلى تكلّف منع استقلال العقل بقبح المؤاخذة على أكثر هذه التسع ، لعدم قبح المؤاخذة على الخطأ والنسيان الصادرين عن ترك التحفّظ عقلا ، ولا على مخالفة ما لا يعلمون مع احتمال وجوب الاحتياط ، ولا قبح عقلا في التكليف الشاقّ الناشئ عن اختيار المكلّف ، مع وضوح فساد هذا الكلام في نفسه ، لابتنائه على القول بعدم منافاة الامتناع بالاختيار للاختيار ، لما حقّقناه في محلّه من منافاة الامتناع للاختيار مطلقا خطابا وعقابا ، فيقبح مؤاخذة الخاطئ والناسي في خطائه ونسيانه مطلقا وعلى الممتنع كذلك. نعم إنّما يجوز المؤاخذة على ترك التحفّظ وعلى سبب الامتناع الصادر عن المكلّف.
ولا دلالة في قوله تعالى حكاية عن النبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم في ليلة المعراج : ( رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَلا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا )(١) على وجود المؤاخذة على هذه الثلاث في الامم السابقة ، لأنّ قوله : ( كَما حَمَلْتَهُ ) مخصوص بالأخير.
و « الإصر » هو الثقل ، وحمله عبارة عن التكليف الشاقّ كما في موارد العسر والحرج. ومنه ما تقدّم في قوم موسى. ولا ريب أنّه ليس من التسعة المنفيّة في الرواية وإن كان هو أيضا منفيّا في الشريعة.
ثمّ إنّ رفع المؤاخذة عن الامّة في هذه التسعة كناية في متفاهم العرف عن رفع التكليف الإلزامي المستتبع للمؤاخذة على مخالفته ، فلا يرد : أنّ رفع المؤاخذة قد يكون باعتبار انتفاء أصل التكليف الإلزامي ، وقد يكون للعفو عن المؤاخذة على مخالفته ، فيكون أعمّ من عدم الإلزام في موارد التسعة ، ومن البيّن عدم دلالة العامّ على الخاصّ.
فإن قلت : جعل رفع المؤاخذة كناية عن رفع الإلزام ربّما يؤدّي إلى فساد المعنى ، لأنّ الرفع في مقابلة الدفع لا يطلق إلاّ على منع بقاء الشيء بعد وجوده ، وبعبارة اخرى : المنع عن ثبوت الشيء الثابت. غاية الأمر : أن يتوسّع في الاستعمال فيطلق على المنع عن ثبوت ما من شأنه أن يثبت لوجود المقتضي لثبوته. ومنه النسخ الّذي عرّفوه : برفع حكم شرعي
__________________
(١) البقرة : ٢٨٦.