الثاني : على فرض كونها شرعيّة لا يمكن حملها على الوجوب ، لاستلزامه تخصيص الأكثر في مرتبة هي من أظهر مراتب قبحه ، لأنّ موارد الاحتياط في الشرعيّات كثيرة بل غير محصورة ، ولا يجب الاحتياط إلاّ في أقلّ قليل منها هو بالقياس إلى الباقي ليس إلاّ كشعرة بيضاء في بقرة سوداء ، فلا بدّ من حملها على الاستحباب وإن تضمّن ذلك التخصيص بالنسبة إلى الاحتياط الواجب ، أو مطلق الرجحان ، والأوّل أقرب فتعيّن الحمل عليه.
وتوهّم أنّ الاستحباب وإن كان أقرب غير أنّه يبعّده ما لزمه من التخصيص ، والرجحان المطلق وإن كان في نفسه أبعد غير أنّه يقرّبه عدم استلزامه تخصيصا.
يدفعه أوّلا : أنّ التخصيص في الجملة مشترك اللزوم بين المعاني الثلاث بالقياس إلى صورة دوران الأمر بين الوجوب والتحريم ، فإنّ الاحتياط فيها إنّما هو بالجمع بين الفعل والترك ، وهو غير ممكن فيخرج عن الجميع بالعقل ، فإنّه لعدم إمكانه كما لا يجب فكذلك لا يستحبّ ، وإذا انتفى عنه الأمران انتفى الرجحان أيضا ، لأنّه غير خال عنهما.
وثانيا : أنّ الوجه في كون التخصيص اللازم على تقدير الحمل على الاستحباب مبعّدا إنّما هو كونه خلاف الأصل ، فأصالة عدم التخصيص ينافي الأقربيّة ويعارضها.
وفيه : منع المعارضة لورود قاعدة الأقربيّة عليها ، فإنّ مراعاة هذه القاعدة توجب الالتزام بجميع لوازمها ، وإن كانت مع قطع النظر عنها مخالفة للأصل ، لا لأنّ الأصل مع ملاحظتها جار ولا يعتنى به ، بل لعدم جريانه حينئذ بارتفاع موضوعه بسبب إعمال القاعدة ، كما هو شأن كلّ دليل أو قاعدة اجتهاديّة واردين على الأصل.
الثالث : أنّ هذه الأوامر ليست إلاّ عمومات قابلة للتخصيص ، فعند وجود ما يصلح مخصّصا لها وجب تخصيصها ، وقد عرفت في أخبار البراءة أنّ قوله عليهالسلام : « كلّ شيء مطلق حتّى يرد فيه نهي (١) » كالنصّ في الشبهة الحكميّة التحريميّة ، فيكون أخصّ من قوله عليهالسلام : « أخوك دينك فاحتط لدينك (٢) » ونظائره ، ومن الواجب تقديم الخاصّ على العامّ.
ولو سلّم عدم التخصيص ـ ولو لوجود ما يكون خاصّا بشبهة التحريم في أخبار الاحتياط كالثالث من مراسيل الشهيد ـ لكن أخبار الطرفين بمنزلة الخبرين المتعارضين ، لأنّ في أخبار البراءة على ما تقدّم ما هو ناف للاحتياط كالخبر المتقدّم ، وقوله عليهالسلام : « الناس
__________________
(١) الفقيه ١ : ٣١٧.
(٢) الأمالي : ١١٠ ، ح ١٦٨.