بالبديهة بأنّ في الشريعة محرّمات كثيرة اشتغلت ذمّتنا بوجوب تركها أجمع على وجه اليقين ، وبعد مراجعة الأدلّة وإن ظهر جملة من تلك المحرّمات المعلومة بالإجمال إلاّ أنّه لم يحصل بذلك القطع بالخروج عن عهدة الترك الواجب علينا ، بل القطع به موقوف على ترك كلّ ما احتمل كونه منها إذا لم يكن دليل شرعي على حلّيته وإباحته ، إذ مع وجود هذا الدليل يقطع بعدم العقاب على الفعل وإن لم يقطع بإباحته في الواقع.
فصار المحصّل : أنّه يجب تحصيل اليقين بالبراءة إمّا بيقين الخروج عن العهدة ، أو بيقين عدم العقاب على الفعل ولو مع الحرمة واقعا.
والجواب عن ذلك :
أوّلا : النقض بالشبهات الحكميّة الوجوبيّة ، لحصول العلم الإجمالي من جهة الضرورة قبل النظر في الأدلّة الشرعيّة بأنّ في الشريعة واجبات كثيرة اشتغلت ذمّتنا بالتكليف بإتيانها أجمع على وجه اليقين إلى آخر ما ذكره.
وثانيّا منع اشتغال الذمّة بأزيد ممّا أمكن تحصيل العلم التفصيلي أو الظنّ التفصيلي من جهة الأدلّة الشرعيّة به ، فإنّ شرط تنجّز التكليف بالنسبة إلى الأحكام الواقعيّة المجعولة في الوقائع المصحّح للعقاب على مخالفتها إنّما هو العلم الإجمالي مع التمكّن من العلم التفصيلي بها أو ما يقوم مقام العلم التفصيلي ، ومنه فتوى الفقيه بالنسبة إلى المقلّد ، ولذا لا يكون الجاهل المقصّر في الأحكام المتمكّن من العلم التفصيلي بها أو ما يقوم مقامه معذورا في جهله ، ويصحّ عقابه على مخالفة تلك الأحكام وأمّا غير العالم بالإجمال كالغافل أو العاجز عن العلم التفصيلي وما يقوم مقامه فذمّته ليست مشغولة بتكليف إلزامي في الوقائع المجهولة وإن كانت الأحكام المجعولة لها في الواقع هي الأحكام الإلزاميّة من وجوب أو حرمة ، ويقبح عقلا مؤاخذته وعقابه على مخالفة تلك الأحكام ، وعليه مبنى ما تقدّم في تقرير الدليل العقلي على أصل البراءة من قبح التكليف بلا بيان ، وقبح المؤاخذة على مخالفة ما لا سبيل للمكلّف إلى العلم به من الوجوب أو الحرمة الواقعيّين.
وكلامنا في باب أصل البراءة مفروض في صورة العجز عن تحصيل العلم بالحكم الواقعي وما يقوم مقامه ، ولذا يشترط في إعماله الفحص أو اليأس عن الدليل المعتبر ، فالعقل الحاكم بقبح المؤاخذة والعقاب على مخالفة الحكم الواقعي المجهول لا يحكم مع ذلك بوجوب ترك كلّ ما احتمل كونه من المحرّمات الواقعيّة ، ولا بوجوب إتيان كلّ ما احتمل كونه من الواجبات الواقعيّة من جهة أصل الاشتغال ، ويرجع ذلك إلى اليقين بعدم