لمآربه ، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه.
ففي هذا دلالة واضحة على أنّ العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملاءمة ، وأنّ الخالق له واحد ، وهو الّذي ألّفه ونظمه بعضا إلى بعض ، جلّ قدسه ، وتعالى جدّه ، وكرم وجهه ، ولا إله غيره ، تعالى عمّا يقول الجاحدون ، وجلّ وعظم عمّا ينتحله الملحدون.
وسنبدأ يا مفضّل ؛ بذكر خلق الإنسان فاعتبر به ، فأوّل ذلك ما يدبّر به الجنين في الرحم ، وهو محجوب في ظلمات ثلاث : ظلمة البطن ، وظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ؛ حيث لا حيلة عنده في طلب غذاء ، ولا دفع أذى ، ولا استجلاب منفعة ، ولا دفع مضرّة ؛ فإنّه ليجري إليه دم الحيض ما يغذوه كما يغذو الماء النبات ، فلا يزال ذلك غذاءه حتّى إذا كمل خلقه ، واستحكم بدنه ، وقوي أديمه على مباشرة الهواء ، وبصره على ملاقاة الضياء ، هاج الطلق بأمّة فأزعجه أشدّ إزعاج ، وأعنفه حتّى يولد ، فإذا ولد صرف ذلك الدم الّذي كان يغذوه من دم أمّه إلى ثدييها ، فانقلب الطعم واللون إلى ضرب آخر من الغذاء ، وهو أشدّ موافقة للمولود من الدم ، فيوافيه في وقت حاجته إليه ، فحين يولد قد تلمّظ شفتيه طلبا للرضاع فهو يجد ثديي أمّه كالإداوتين المعلّقتين لحاجته ، فلا يزال يغتذي باللبن مادام رطب البدن ، رقيق الأمعاء ، ليّن الأعضاء ، حتّى إذا تحرّك واحتاج إلى غذاء فيه صلابة ليشتدّ ويقوى بدنه ، طلعت له الطواحن من الأسنان والأضراس ليمضغ الطعام ، فيلين عليه ، ويسهل له إساغته ، فلا يزال كذلك حتّى يدرك ، فإذا أدرك وكان ذكرا