دخلوا دارا قد بنيت أتقن بناء وأحسنه ، وفرشت بأحسن الفرش وأفخره ، وأعدّ فيها ضروب الأطعمة والأشربة والملابس والمآرب الّتي يحتاج إليها ولا يستغنى عنها ، ووضع كلّ شيء من ذلك موضعه على صواب من التقدير ، وحكمة من التدبير ، فجعلوا يتردّدون فيها يمينا وشمالا ، ويطوفون بيوتها إدبارا وإقبالا ، محجوبة أبصارهم عنها ، لا يبصرون هيئة الدار وما أعدّ فيها ، وربّما عثر بعضهم بالشيء الّذي قد وضع موضعه وأعدّ للحاجة إليه ، وهو جاهل بالمعنى فيه ، ولما أعدّ ، ولما ذا جعل كذلك ، فتذمّر وتسخّط وذمّ الدار وبانيها ، فهذه حال هذا الصنف في إنكارهم ما أنكروا من أمر الخلقة وثبات الصنعة ، فإنّهم لمّا عزبت أذهانهم عن معرفة الأسباب والعلل في الأشياء صاروا يجولون في هذا العالم حيارى ، ولا يفهمون ما هو عليه من إتقان خلقته ، وحسن صنعته ، وصواب تهيئته ، وربّما وقف بعضهم على الشيء فجهل سببه والإرب فيه ، فيسرع إلى ذمّه ووصفه بالإحالة والخطأ ، كالّذي أقدمت عليه المانويّة الكفرة ، وجاهرت به الملاحدة الماردة الفجرة ، وأشباههم من أهل الضلال.
يا مفضّل ، أوّل العبر والأدلّة على البارئ تهيئة هذا العالم ، وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي عليه. فإنّك إذا تأمّلت العالم بفكرك وميّزته بعقلك ، وجدته كالبيت المبنيّ المعدّ فيه جميع ما يحتاج إليه عباده ، فالسماء مرفوعة كالسقف ، والأرض ممدودة كالبساط ، والنجوم منضودة كالمصابيح ، والجواهر مخزونة كالذخائر ، وكلّ شيء فيها لشأنه معدّ ، والإنسان كالمملّك ذلك البيت ، والمخوّل جميع ما فيه ، وضروب النبات مهيّأة