تدبيرات لا يعلم أكثرها العارفون ولا يطّلع عليها الحكماء والعالمون ، وما أتى الله علمها إلّا قليلا من عباده الصالحين ، وليس في طاقة البشر إحصاء كيفيّات التدبير في جميع الخلق إلّا القليل منها كالإنسان مثلا ، فلو نظر العاقل فيه بعين البصيرة لرأى فيه تدبيرات عجزت عن دركها أفهام السالكين وأوهام المجتهدين ، مع أنّه كان في الأوّل من سلالة من طين ، ثمّ صار نطفة ، ثمّ علقة ـ وهي القطعة الجامدة من الدم ـ ثمّ مضغة بعد أربعين يوما ، فكساها عظاما ، فكسى العظام لحما ، وجعل له أعضاء شريفة ظاهرة وباطنة ، كان محتاجا إليها كالعين ليرى ويفرّق السهل من الجبل ، والبئر من القفر ، والسمع ليدرك بها الأصوات ويميّز خفيّها عن جليّها ، وحسنها من كريهها ، والدماغ ليدرك بقوّته الرياح الطيّبة والخبيثة ، والذائقة ليدرك بها المرّ والحلو والحامض ، واللامسة ليدرك بها البرودة والحرارة ، والمتخيّلة ليتخيّل ويتفكّر بها ، وكذلك سائر الأعضاء والجوارح الّتي تشاهدها والّتي لا تشاهدها ، وفي كلّ منها لحكم كثيرة لا نعلمه ولا يعلمه إلّا هو.
وفي «توحيد المفضّل رحمه الله» : يا مفضّل ، إنّ الشكّاك جهلوا الأسباب والمعاني في الخلقة ، وقصرت أفهامهم عن تأمّل الصواب والحكمة فيما ذرأ الباري وبرأ من صنوف خلقه في البرّ والبحر ، والسهل والوعر ، فخرجوا بقصر علومهم إلى الجحود ، وبضعف بصائرهم إلى التكذيب والعنود ، حتّى أنكروا خلق الأشياء ، وادّعوا أنّ كونها بالإهمال لا صنعة فيها ولا تقدير ، ولا حكمة من مدبّر ولا صانع ، تعالى الله عمّا يصفون ، وقاتلهم الله أنّى يؤفكون ، فهم في ضلالهم وعميهم وتحيّرهم بمنزلة عميان