وكل ذلك خسارة كبرى في عمران الكون وعالم الاجتماع. ومرتع وخيم لسياسة الدولة ، ووبال على جل الأمة التي هذا شأنها.
أما العدل والمساواة والحرية فمن بواعث استنارة العقول ، وانطلاق الألسنة في كل مقول. واستدرار منافع الحياة بسائر الطرق الطبيعية متى كانت سابحة في بسائط العدل وراتعة في بحبوحة الأمن ، الأمر الذي يوجد في باريز بأتم معانيه وأكمل مظاهره.
فحضارتها على خلاف المعهود لم تجنح بسكانها إلى التكاسل أو إلقاء شؤونهم بيد أتباعهم أو الترفع عن مشي الأقدام ، أو حصر أوقاتهم في تحسين الهندام أو جعل حديثهم كله في الكأس وأنواع الطعام ، كلا ثم كلا.
جمع سكان باريز بين آداب الحواضر ولذتها ، وشهامة البداوة وعزتها. يعمل رجالهم ونساؤهم ولا يلتصقون بالمنازل إلّا قليلا. يجوبون الشوارع والمنازه وضواحي المدينة على الأقدام سواء في ذلك عزيزهم ووسطهم رجالهم ونساؤهم ، اللهم إلّا في بعض الأوقات ، بموجب الاستعجال أو التفاخر بالمركبات. وليس فيهم من لا شغل له. يقنعون بالأكل بما يسد الرمق ، ولكن على أسلوب حضري منظم يوافق القواعد الصحية والأشغال البدنية «ما ملأ ابن آدم وعاء شرا من بطنه ، حسب المسلم لقيمات يقمن صلبه فإن كان لا محالة فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه».
ويكتفون ، أعني رجالهم ، باللباس البسيط مع نظافته ومراعاة ترتيب لبسه والموازنة بين أجزائه. وسيأتي في فصل اللباس الإلماع لمعنى الموازنة بين الأجزاء. وتقسمت أوقاتهم فاستقامت حياتهم. تهون عليهم الأسفار ، وجوب الأقطار ، يتألفون لاستطلاع أحوال الممالك قطعانا ، ويترامون على فدافد البادية وتسلق الجبال زرافات ووحدانا.
لهم قدرة على الكفاح باللسان والقلم والسلاح ، ينزعون إلى التدرب على الفروسية والرماية والسباحة. ولهم أعمال لرياضة البدن يلقنها الأساتذة للتلامذة من عهد الصبا في مدارس التعليم ويمرنونهم عليها ، وعلى كثير من الخصال الحميدة التي يتنافس فيها أفرادهم لكونها من أسباب السيادة التي لا تحصل بالراحة والنزع إلى الانزواء أو إلى مسالك البطالة. بل هاته كلها من أسباب ذهابها بالمرة. والرجال