الذين طلبوا العلى واصلوا الليل بالنهار ، لإنجاز الأوطار. فطار ذكرهم وانساق الشرف لعائلاتهم أو قبائلهم أو أممهم ، كل على حسب ما تهيأ له وبلغه مقدوره.
وإذا كانت النفوس كبارا |
|
تعبت في مرادها الأجسام |
فسكان باريز لذلك كله نمت صحتهم ، وازدادت شهامتهم ، وحريتهم ، وتقوت جماعتهم وأنكت بالعدو حميتهم. فاغتبطتهم على هذا الأودّاء ، وأيست من مناواتهم الأعداء. والمملكة متى كان هذا شأنها في أمصارها ، ومراكز حضارتها ونعيمها ومظهر أبهة سلطانها ، ولم تهو بها الحضارة الكاذبة إلى الترف المذموم والشرف الموهوم ، امتدت حياة عمرانها ، ودامت سعادة سكانها. وصفوة القول إن هذا المصر وكذا أمصار أروبا على ما يبلغنا عنها بمنجاة من كل ما يخشى منه الخطر على الأمة كانحلال الجامعة أو قلة الحامية والجند أو ضعف الشجاعة والأبدان بالانكباب على الشهوات ، والانقطاع إلى الترف واللذات. أثبت الاستقراء وجود تفاوت بين ممالك أروبا في الرقي اقتضته أسباب سياسية أو جغرافية أو مالية أو اجتماعية. إلا أن التوازن موجود في الجملة ولهذا طال السلم في أروبا. ومتى تكدر صفوه في النادر القليل فقد جاء في التاريخ أن الساقط فيه لا يعتم أن ينهض والمغلوب أن يغلب. وأن الحروب إذا تورطت فيها أي أمة منهم بغلطات بعض رجال سياستها واندحرت في لججها المغرقة ، ونكبت بمدمراتها المحرقة ، فلا تلبث الأمة بعد ذلك أن تتلافى أمرها وتتدارك غلطتها ، وتلم شعثها وتنشل شرفها وتجمع كلمتها ، وترفع رأسها رافلة في حياة جديدة ، وجنود عديدة ، وعدد شديدة. وما الفضل كل الفضل إلّا لعموم الإحساس في جلب الصالح العام واتحاد الشعور في درء النوائب. فإذا نادى مصلحهم لبّاه صوت الأمة كلها وانتشرت حول صعيده قلوبها وشخصت إليه أبصارها ومدته برجالها ومالها. وقوة هذا الاتحاد مما تندك أمامها الجبال ، وتبلغ بها الأمم أقصى الآمال. تناهوا إلى هاته الغاية في التمدن الإنساني والرقي السياسي بعد طول التجربة مئات من السنين دأبوا فيها على تحصيل أنواع العلوم وتوخي طرق التربية الصحيحة حتى برعوا في علم أمور دنياهم ولم ينسوا نصيبهم منها ، فأضحوا