وطبيعتهم الراسخة المتوارثة وشغلهم الوحيد هو الانهماك في شئون عالم الكون والفساد يعلمون ظاهرا مفيدا من الحياة الدنيا. (وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ). باريز شبه بابل. ذكرت فيما تقدم أن باريز شابهت عمران بابل وحضارتها وفاقت العواصم السابقة واللاحقة وأذكر هنا مما حدثوا به عن بابل وأبين وجوه الشبه بينهما في الرقي.
بابل عاصمة الكلدانيين على ضفتي نهر الفرات بالعراق بنيت في القرن السابع والعشرين قبل المسيح ، وبني القصر الذي بها في القرن الثالث والعشرين (ق. م) ، يحيط بها سور مربع الشكل كل جهة منه تزيد على عشرين ميلا بحيث يبلغ تكسير المساحة التي اشتمل عليها نحو خمسمائة ميل. وله خمسة وعشرون بابا من كل جهة ، وتصل الطرقات المستقيمة بالمدينة بين الأبواب المتقابلة فتتكون أقسام بالمدينة كقطع الشطرنج عددها ٦٢٥ ، وسمك السور خمسون ذراعا ، وارتفاعه مايتا ذراع وحول السور خندق ، وموقعها جاء في بساط سهل ، وبالمدينة مرصد لحركات الكواكب.
والبساتين المعلقة المغروسة على أرض صناعية مقامة على أعمدة متينة ومدرجة الجوانب. وبالمدينة البقول والرياحين والأشجار المثمرة ، وقد علمت أن النهر يأتي لها بالتمر والخمر من سكان أعاليه في الفلك المهيأة من الجلود والأعواد التي ترجع بها الأحمرة إلى أعالي النهر حسبما قررنا ذلك عند الكلام على أدوار الفلك والسير على الماء. وذكروا عن هيكل إلههم بعل الذي بنته سميراميس أن ارتفاعه نحو مايتي ميترو وعدا الأبراج التي فوقه. وسكانها أهل ذكاء ومعارف وإقدام. وعادتهم في المداواة «والطب أساسه التجربة» أن يضعوا المريض على الطريق ، وكل من مر به يخبر بالدواء الذي نجع في مثل ذلك الألم.
ولهم اعتناء في ترتيب أثاث وموائد منازلهم ولباسهم فجمعت هاته المدينة ، لاتساع نطاق العمران ، جمال الموقع وجودة التربة وغزارة المياه وقوة الأمة بالعلم والمال والإقدام فطارت شهرتها في الآفاق ، وهي جاثمة بالعراق. فلا غرابة إذا خضعت لها الأقطار ، ودعيت مدينة التجار. واستمر ذكرها إلى الآن يملأ صحائف المؤرخين شروحا وأندية السمر إعجابا وقد مضى على ذلك آلاف من السنين وجاءت العواصم بعدها وشاكلتها في بعض الوجوه. إلا أن باريز قد شابهتها في كثير من ذلك