ومنها إلى الأعلى بدرج من حجارة نحو ٨٠ ، فتراءت لي معظم بناءات القرية في الشرق والجنوب. وغالب آجر بناءاتها يميل إلى الزرقة ويرفرف على منازلها طير على قدر الحمام أسود فاحم ، يألف البيوت ويفرخ في أعاليها.
زرت مستشفى هاته القرية في ضاحيتها شمالا فوجدته كامل التأثيث والترتيب ، فسيح المنازل ، يضم بين جدرانه رحبة واسعة وفرشا ٢٤٠ وتكية للعجز أكثر ما بها نساء.
أطلعنا ناظر المستشفى على أقسامه وكانت بيت الأدوية أوانيها عتيقة ، منها الخزفي الذي مضت عليه عدة قرون ٣ من مصنوعات نفاير. وتلك الجهة شهيرة بهاته الصناعة مثل نابل الآن بالمملكة التونسية ، ومنها النحاسية المزوقة بطلاء براق ذي ألوان كالأزرق والأخضر ، قالوا إنها من مصنوعات ليموج منذ قرون وفقدت منها الآن هاته الصناعة جهلا بالأجزاء التي تتكون منها مادة تلك الألوان وبأساليب تركيبها. مثلما انقرض العلم بمادة طلاء الجليز الأندلسي الآن وإن حاول بعض الناس الآن في نابل تقليدها ومعالجة إحيائها. وأسباب فقد الصنائع قديما وحديثا كتم العارفين بها مع أنها علم يحرم كتمانه ، واحتكارهم لها حبا في السمعة وطمعا في المال الذريع. مع أن الرزق مقسوم ، والبخيل بجاهه أو بماله أو بعلمه مذموم ومحروم. إلى أن يأتيهم الموت بغتة وهم لا يشعرون. وكثيرا ما يطوف على المملكة طائف من ربك فيبيتها مرض العدوى أو يصبح بها صايح الحرب فيجرف الخصيصيين في العلوم والمحكرين للصنائع ومعهم ما علموه وما علموه ، فتصبح الأمة تبكي تلك الصناعة وأما صاحبها فتشكوه.
دخلت دار آثار هاته القرية وكنيستها المنسوبة لصان روك. وقد قلنا غير مرة إن قرى فرانسا لا تخلو من مكتب ١ للتعليم ومكتبة ٢ للمطالعة ودار للآثار ٣ ونزل للمسافرين ٤ ومحل للتمثيل ٥ ومعبد ديني ٦ ومستشفى للمعالجة ٧. واستوقف نظري في الأولى بقسم الحجارة كثرة النقوش العربية البحتة وهي الأشكال الهندسية المنتظمة والمرتبطة الأطراف على قواعد معروفة وقوانين معينة كيفما كانت الأشكال أو كثرت التفاريع. ولتفنن العرب في العصور ٥٠٠ الأولى وحتى الوسطى ١٠٠٠ في تلك الأشكال ورسمها على الحجارة والألواح والجبس والأوراق في فواتح السور وأوائل