بضرورة ردّ الاعتبار لهيبة الجيش البريطاني ، في مرحلة تشتد فيها الحرب الباردة بين إنكلترا وكل من إيطاليا وألمانيا. كما قدمت القيادة العسكرية البريطانية تبريرات لتعزيز قواتها في فلسطين بضرورة حماية قناة السويس ، وخصوصا في إثر الاتفاقية البريطانية ـ المصرية (١٩٣٦ م) ، والقيود التي فرضتها على حجم الحامية الإنكليزية هناك.
وتضافرت هذه العوامل جميعا لتدفع حكومة لندن في اتجاه إظهار قبضة بريطانيا القوية ، وخصوصا بعد التلميحات التي أطلقها بن ـ غوريون في لقاء مع أورمسبي ـ غور ، أن استرضاء العرب سيدفع الحركة الصهيونية إلى تغيير تحالفاتها ، والمساعدة على إقصاء بريطانيا من المنطقة. واعتمدت حكومة لندن سياسة القضاء على الثورة أولا ، ومن ثمّ يأتي العمل السياسي على أرضية جديدة ومتباينة. واتخذ مجلس الوزراء (٢ أيلول / سبتمبر ١٩٣٦ م) قرارا بهذا المعنى ، ينطوي على إنهاء مهمة نوري السعيد بالوساطة ، وإرسال تعزيزات إلى فلسطين ، وتعيين الجنرال ديل قائدا لها ، ونقل السلطة من يد المندوب السامي إلى قائد الجيش إذا لزم الأمر. وأبلغت وزارة المستعمرات بإيقاف تدخل الدول العربية في شؤون فلسطين ، على أن تبقى أبوابها مفتوحة للهجرة اليهودية ، وذلك حتى ينتهي الإضراب ، وتتوقف الاضطرابات ، فيصبح بالإمكان مناقشة المسألة. وبعد هذا القرار ، بدأت حملة عسكرية محمومة في فلسطين ، بقيادة الجنرال ديل ، لكن الثورة صمدت ، على الرغم من الخسائر الكبيرة التي لحقت بها. ومع ذلك ، فقد دخلت المواجهة مرحلة جديدة وصعبة ، وأصبحت تستلزم قرارات حاسمة.
وإلى جانب الترهيب بالسحق العسكري ، الذي تجمعت أدواته في فلسطين ، بقرار حازم من حكومة لندن ، مهدت له بالتلويح بإعلان الحكم العسكري ، عمدت إلى سياسة الترغيب عبر تفعيل الوساطة العربية مجددا. وتحت ضغط الواقع الذي تشكل ـ الصعوبات الاقتصادية نتيجة الإضراب الطويل والمخاطر العسكرية الماثلة للعيان ، من جهة ، والوساطة العربية ، من جهة أخرى ـ رضخت اللجنة العربية العليا إلى مطالب الحكومة البريطانية بإيقاف الإضراب وتجميد الثورة ، من دون أن تقدم هذه الأخيرة أية تنازلات ملموسة. وبررت اللجنة العليا قرارها بأنه موقت ، يوفر فترة من الراحة والاستعداد ، ويمكن التراجع عنه إذا جاءت قرارات لجنة بيل على غير ما ترغب. وبرزت معارضة لهذا القرار ، لكن السياسة البريطانية حققت نجاحا في تليين موقف اللجنة العربية العليا ، على أرضية الواقع الصعب الذي تشكّل.
وبمعرفة المندوب السامي وتشجيعه ، توجه بعض أعضاء اللجنة العربية العليا إلى الرياض وعمان في أواخر أيلول / سبتمبر ١٩٣٦ م. وفي ١٠ تشرين الأول / أكتوبر