خامسا : الانتداب يرعى الاستيطان
كان تعيين هربرت سامويل مندوبا ساميا على فلسطين ، بمثابة رسالة صريحة من حكومة لندن إلى الأطراف المعنية جميعها ، تؤكد التزامها بوعد بلفور ، وإصرارها على تنفيذه. وإزاء المقاومة العربية لهذه السياسة ، من جهة ، وتردد الإدارة العسكرية في تجسيدها ، اقتناعا بعدم جدواها ، من جهة أخرى ، عمدت الحكومة البريطانية إلى تجاهل حقوق الفلسطينيين. فبادرت إلى اتخاذ إجراءات من شأنها تعزيز الاستيطان الصهيوني ، وتغييب سكان البلد الأصليين ، عبر الانتداب الذي لم يكن قد أقرّ بعد في عصبة الأمم. وفي مذكرة بعث بها بلفور إلى اللورد كيرزون (وزير الخارجية) في ١١ آب / أغسطس ١٩١٩ م ، في أثناء مناقشة التعهدات البريطانية المتضاربة خلال الحرب ، وبروز اعتراضات قوية عليها داخل الحكومة والبرلمان ، قال : «إن التناقض بين نصوص العهد وسياسة الحلفاء صارخ بدرجة أكبر في حالة (أمة فلسطين المستقلة) ، عنه في حالة (أمة سورية المستقلة) ، فنحن لا ننوي في حالة فلسطين حتى أن نقوم بشكليات استقصاء رغبات سكان البلد الحاليين ، وإن كانت اللجنة الأميركية تقوم بشكليات الاستفسار عن هذه الرغبات.» (١)
ومضى بلفور يقول في مذكرته : «إن الدول الكبرى الأربع ملتزمة بالصهيونية. والصهيونية ، سواء أكانت صائبة أو خاطئة ، حسنة أم سيئة ، تضرب بجذورها في عادات قديمة قدم الدهر ، وفي الحاجات الحالية ، وفي الآمال المقبلة ، وهي أكبر أهمية بكثير من رغبات وتحاملات السبعمئة ألف عربي الذين يقطنون الآن تلك الأرض القديمة ... وأيّا كان مستقبل فلسطين ، فهي ليست الآن (أمة مستقلة) ، وليست في سبيلها لأن تصبح كذلك. ومهما كان ينبغي مراعاة رأي الذين يعيشون هناك ، فإن الدول الكبرى لا تنوي ، على حد فهمي للأمر ، أن تستشيرهم لدى قيامها باختيار الدولة المنتدبة. وخلاصة القول إن الدول الكبرى لم تصدر فيما يتعلق بفلسطين أي بيان وقائعي ليس خاطئا باعترافها ، ولا بيان سياسي إلّا وهي تعتزم دائما على الأقل بالمعنى الحرفي ، أن تنتهكه.» (٢)
وفي الواقع ، فإن الدول الكبرى لم تحترم العهود التي قطعتها على نفسها في أثناء الحرب ، ما عدا التزامها تجاه الصهيونية ، الذي جرى تعزيزه وإعطاؤه الأولوية.
__________________
(١٣) الأمم المتحدة ، «منشأ القضية الفلسطينية وتطورها ، ١٩١٧ ـ ١٩٨٨» (نيويورك ، ١٩٩٠) ، ص ٣٣ ـ ٣٤.
(١٤) المصدر نفسه.