نجم عن ذلك من تطوير ذاتي لذلك المشروع ، حدث تراجع في العمل الوطني الفلسطيني ، ذاتيا وموضوعيا. لقد أصبح هذا العمل جزءا من الوضع العربي العام ، الذي انحاز إلى القوة الهابطة جرّاء الحرب ، عالميا وإقليميا ـ بريطانيا. فما عدا «ثورة رشيد عالي الكيلاني» (١٩٤٠ ـ ١٩٤١ م) في العراق ، التي انحازت إلى دول المحور ، وانضم إليها بعض القادة الفلسطينيين ، كانت الحكومات العربية تقف إلى جانب الحلفاء ، عبر الارتباط ببريطانيا ، بغض النظر عن مزاج شعوبها. لكن بريطانيا ، التي سعت ولو شكليا لاسترضاء العرب ، وجدت نفسها واقعة تحت ضغط أميركي ـ صهيوني ، بينما هي في حالة حرب صعبة مع ألمانيا ، لم تكن لها فيها اليد العليا في البداية ، إذ كان الاتحاد السوفياتي لا يزال حليفا لألمانيا ، وأميركا لم تدخل الحرب رسميا. وكان طبيعيا أن يعكس المأزق البريطاني نفسه على الوضع العربي ، الذي وجد نفسه أمام خيار أهون الشرّين ، أخذا في الاعتبار الواقع الذي يعيشه ، بينما فتح أمام المنظمة الصهيونية خيار أولى الحسنين ، فلم تتردد في انتهاز الفرصة.
لقد استغلت المنظمة الصهيونية مأزق العلاقات بين الحلفاء في أثناء الحرب لدفع مشروعها نحو غاياته ، وفي المقابل ، استغلت بريطانيا المأزق الذاتي العربي لتمرير مناوراتها الرامية إلى إخضاع العرب لإملاءات استراتيجيتها العسكرية في الحرب. وكما فعلت حكومة لويد جورج في الحرب العالمية الأولى ، فعلت حكومة تشرشل في الثانية ، بتمرير الخديعة على العرب. لكن تشرشل ، الذي لم يأل جهدا في خدمة الصهيونية ، لم يفلح في احتوائها ، وبالتالي الحؤول دون انتقالها إلى الحاضنة الأميركية ، فخسر صداقة العرب ، ولم يكسب رضى الصهيونية. وإذ خرجت بريطانيا من الحرب الثانية في المعسكر المنتصر ، لكن موقعها فيه ضعف كثيرا عما كان عليه في الحرب الأولى. ففي الأولى كانت بريطانيا قوة مهيمنة ، واستطاعت بعدها أن تكبح جماح أميركا ، وتستخف بها ، كما حدث في أثناء تشكيل عصبة الأمم ، أمّا في الثانية فقد انقلبت الآية تماما. وبغض النظر عن النوايا البريطانية إزاء العرب ، فإنها بعد الحرب الثانية لم تكن في موقع يتيح لها فرض إرادتها. لقد فقدت موقعها ، عالميا وإقليميا ، لمصلحة الولايات المتحدة. واستغلت الصهيونية هذا الانقلاب ، وهجرت بريطانيا وتعلقت بأهداب أميركا ، بينما كان على العرب ، حلفاء بريطانيا ، أن يعيدوا ترتيب أوراقهم ، بما ينسجم مع الوضع الجديد ، الذي كان للصهيونية فيه موقع متقدم عليهم.