وأما المنظر الثاني : فهو منظر مياه هذا الميناء ، فلقد طفت كثيرا من البحار ، وعرفت أكثر البحر المتوسط ، والبحر الأسود ، وبحر البلطيق وبحر المانش ، والأوقيانوس الأطلانتيك (١) ، ولم يقع بصري على شىء يشبه مياه بحر جدة في البهاء واللمعان ، كنت كيفما نظرت يمنة أو يسرة أشاهد خطوطا طويلة عريضة في البحر أشبه بقوس قزح في تعدّد الألوان ، وتألّق الأنوار ، من أحمر وأزرق وبنفسجي وعنّابي وبرتقالي وأخضر إلخ. ولا فرق بين هذه الخطوط وبين قوس قزح سوى أنّ هذه الخطوط مستقيمة ، وأن قسيّ قزح مقوّسة ، وأنّ هذه في السماء ، وهاتيك في الماء ، وقد تشبه هذه الخطوط ذيول الطواويس ، لا فرق بينهما إلا في كون هذه الذيول المنسحبة على وجه البحر عظيمة جدا ، تمتد مئات من الأمتار وبعرض عشرات منها ، ولكن في تعدد الألوان وموازاة بعضها لبعض ، وشدة تألقها الآخذ بالأبصار لا تجد بينهما بونا. فكأن في كلّ جهة من بحر جدة مسرح طواويس سابحة في اللّججّ الخضر ، وظهورها إلى سطح الماء الواحد منها بقدر ألف طاووس مما نعهد.
قضيت العجب من هذا المنظر ، وقلت : إنّ مثل هذا الميناء لا تملّه النواظر ، ولا تشبهه المناظر ، مهما كانت نواضر.
ثم سألت ربّان الباخرة ـ وهي من البواخر الهندية ربانها إنكليزي ـ عما إذا كان رأى هذا المنظر في بحر آخر ، وقلت له : إنّي جلت كثيرا في الدنيا ، ورأيت أبحرا وبحيرات وأنهارا لا تحصى ، ولم أعهد مسرح لمحة على سطح ماء يحاكي في البهاء هذا الميناء ، فما قولك أنت؟
قال لي : مهما يكن من سيرك في الأرض ومعرفتك للبحار ، فلا
__________________
(١) [المحيط الأطلسي].