ثم زاد على ذلك : بأن تحمل أقسى وأعنف الآلام الروحية ، وهو يرى أباه يعلن براءته منه على الملأ من قريش ، وهي براءة تدلل على عمق الجرح الذي أحدثه قراره في نفس أبيه المفجوع به ، حيث واجهه بأعنف صدمة عاطفية ، وهو يرى خيبة آماله في ولده ، وفلذة كبده وأعز ما ومن في الوجود عليه.
والذي يزيد في هذه الآلام : أن ولده هذا لم يراع مكانة أبيه ، بل هو قد عرض موقعه الاجتماعي للاهتزاز ، حين أصر على البقاء في كنف إنسان آخر ، عاش معه ردحا طويلا على صفة العبودية. وإذا بهذا العبد يفضل سيده حتى على أهله وعشيرته ، وحتى على أبيه وأمه.
فما معنى : أن يفضل هذا الولد حياة العبودية مع سيده هذا على ما سواها ، دون أن يطلب لنفسه أي امتياز ، أو ضمانة ، أو دون أن يفكر بأي تغيير في مسار هذه الحياة ، مع من يطلب البقاء معهم ، والعيش في كنفهم؟!
ألا يدل ذلك : على أن في الأمر سرا عميقا ودقيقا ، قد يتجلى هذا السر في بعض وجوهه ، في أن السبب في عظمة النبي الأعظم «صلىاللهعليهوآله» لم يكن هو تميّزه وتفرّده في الصفات والسمات البشرية ..
وإنما سببها هو : أنه ذلك الإنسان الإلهي الصافي ، والخالص ، الذي استحال على زيد بن حارثة ، رغم طول صحبته له ، واطلاعه عن قرب على حالاته المختلفة ـ لقد استحال عليه ـ : أن يجد فيه أي حالة من حالات الضعف البشري ..
بل هو يراه دائم التعالي والتسامي والرقي في منازل الكرامة وفي المقامات المحمودة ، ويشاهده وهو يزداد بهاء وسناء ، وتوهجا وتألقا في