والنسيان عنها وإحالة الجحد والكتمان منها لم يغن ذلك عن إمام في كل زمان حسبما يشهد به الدليل العقلي والبرهان.
وذلك أنا وجدنا اختلاف طبائع الناس وشهواتهم وتباين هممهم وإرادتهم وميل جميعهم في الجملة إلى الرئاسة ومحبتهم لنفوذ الأمر ووجوب الطاعة ورغبتهم في حرز الأموال وتطلعهم إلى نيل الآمال وارتكاب أكثرهم للمقبحات وتسرعهم إلى ما يقدرون عليه من الشهوات مع وكيد تحاسدهم وشديد تظالمهم الذي لا ينكره إلا من دفع الضرورات وأنكر المشاهدات يقضي ذلك في العقول عند ذوي التحصيل بأن صلاح أحوالهم وانتظام أمورهم وحراسة أنفسهم وأموالهم لا يتم إلا بوجود رئيس لهم ومتقدم عليهم يكون مسددا فيما يمضيه من تدبيرهم موفقا للصواب فيما يراه لهم وعليهم يقيم بهيبته عوجهم ويرد بيده أودهم ويجمع برأيه متشتتهم ويقهر بتمكنه معاندهم ويمنع القوي من الضعيف ويسوسهم بالسوط والسيف.
وفي عدم الرئيس وهم على ما ذكرناه فساد أحوالهم وانقطاع نظامهم وحصول الهرج منهم ووجود الحيرة والفتنة بينهم التي هي سبب تلافهم وهلاك أنفسهم.
وهذا أمر يعلم العقلاء صحته ممن أقر بالشرع وجحده قال الأفوه الأودي وكان جاهليا : (١)
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم |
|
ولا سراة إذا جهالهم سادوا |
وإذا كان الله تعالى إنما خلق خلقه لنفعهم وأحياهم لصلاحهم ومراشدهم فإنه في عدله وحكمته ورأفته ورحمته لم يخلهم في كل زمان من رئيس يكون لهم وإمام في الدين والدنيا عليهم.
_________________
(١) هو صلاءة بن عمرو بن مالك الأودي من بني أود ، والأفوه لقب كان له ، وهو من سادات العرب في الجاهلية المعروفين بالرأي والحزم ، ومن الشعراء المشاهير ، وكان فارسا مغوارا توفي سنة (٥٧٠ م) وفي شعره فكر وحياة.