وأما رجحان التقييد على التخصيص ، فلأنّه إذا دار الأمر بينهما ، فهو إمّا أن يكون في خطابين أو في لفظين في خطاب ، وإمّا أن يكون في لفظ واحد ، مثاله في خطابين أن يقول ( أكرم العلماء ) ثمّ قال : ( إن ضربك رجل فلا تكرمه ) فدار الأمر بين تخصيص العام في الأوّل بغير الضارب بحمله على العلماء الغير الضاربين ، وبين تقييد الرجل في الثاني بغير العالم .
ومثاله في لفظين في خطاب ، أن يقول ( أعط كل واحد من العلماء عبداً ) ، وعلمنا من الخارج أنّه لا يجوز إعطاء عبد حبشي زيداً العالم ، فدار الأمر بين تقييد العبد بغير الحبشي وإدخال زيد في العموم وبين إطلاقه وإخراج زيد من العموم .
ومثاله في لفظ واحد قوله تعالى ( أَوْفُوا بِالْعُقُودِ ) فإنه بعد قيام الإجماع والنص على عدم وجوب الوفاء بالبيع قبل التفرق من مجلسه ، يدور الأمر بين تخصيص العام بغير البيع ، وبين تقييد الحكم بما بعد التفرّق من مجلس العقد بالنسبة إلى كل عقد ، هكذا مثّلوا لذلك .
ولكن الإنصاف ، أنّه ليس من مثال ما نحن فيه في شيء ، أمّا أوّلاً فلأنه ليس الدوران فيه في لفظ ، بل في لفظين ، أحدهما : صيغة الأمر ، وهو ( أَوْفُوا ) وثانيهما : اللفظ العام وهو ( الْعُقُودِ ) .
اللّهم إلا أن يقال : إنه لا معنى لتقييد الأمر ، بل تقييد كل حكم باعتبار تقييد متعلقه ، وهو تابع له ، فيرجع التقييد فيه إلى تقييد متعلقه ، وهو في المثال مادة العقد ، فيدور الأمر بين تقييد مادة العقد بغير البيع ، وابقاء الهيئة المفيدة للعموم على عمومها ، وبين تخصيصها بغير البيع ، فافهم .
وأمّا ثانياً : فلأنّه ليس الدوران هنا
بين التقييد والتخصيص ، فإنّ الذي يقتضيه العام ، إنما هو شموله لكل فرد من أفراد العقد حتى البيع ، وثبوت الحكم لكل
فرد في الجملة ، وأما إنّ الحكم ثابت لكل فرد في جميع الأحوال ، فليس من مفاد
العام ، بل هو مقتضى إطلاق الأمر ، وهو أوفوا ، وقيام الدليل الخارجي على عدم ثبوته في فرد
من أفراد العام ، كالبيع في بعض حالاته إنما يوجب تقييد الامر بالنسبة إلى المادة المذكورة ، ولا دخل له بتخصيص العام ، لأنه لم يقتض ثبوت الحكم للبيع في خصوص المادة المذكورة حتى ينافيه الدليل الخارجي ، فأين الدوران بين التقييد والتخصيص