وبالجملة الاستصحاب يقتضي اعتبارا زائدا لا حاجة إلى مراعاته في أصلي الاشتغال والبراءة ، وهذا الاعتبار الزائد في مورد أصل البراءة من وجهين وفي مورد أصل الاشتغال من وجه واحد.
هذا كلّه على رأي العدليّة القائلين بالتحسين والتقبيح العقليّين ، لما عرفت من ابتناء القاعدتين على قاعدة التحسين والتقبيح ، وأمّا على مذهب الأشاعرة المنكرين لحكومة العقل فتمسّ الحاجة إلى التمسّك بالاستصحابين ، لاستلزام انكارهم حكومة العقل لانكار القاعدتين ، إن لم يخدشه قضاء أصلهم الفاسد بانكارهم العمل بالاستصحاب لابتنائه أيضا على حكومة العقل في قضيّة : « كلّما ثبت دام ».
ولكن يدفعه : منع انكارهم حكومة العقل رأسا حتّى من غير جهة الحسن والقبح في مسألة التحسين والتقبيح ، وانكارهم ادراك العقل حسن الأشياء وقبحها ـ على ما شرحناه في محلّه ـ إنّما هو من باب السلب بانتفاء الموضوع ، على معنى رجوعه إلى انكار الصغرى وهو أنّه ليس في الأشياء حسنا ولا قبحا يدركهما العقل ، قبالا لمقالة العدليّة من أنّ فيها حسنا أو قبحا يدركهما العقل في بعضها ، وهذا هو معنى كون حسن الأشياء وقبحها بالشرع لا بالعقل على ما هو المعروف من مقالتهم ، فانكارهم حكومة العقل بهذا المعنى في مسألة التحسين والتقبيح لا ينافي قولهم بحكومة العقل فيما لا يرجع إلى ادراكه الحسن والقبح ، ومنه حكمه الظنّي بدوام ما ثبت ، وعليه مبنى الاستصحاب المثبت من جهة العقل لا على ادراكه الحسن والقبح.
لا يقال : الاستغناء عن استصحابي الاشتغال والبراءة بسبب قاعدتي الاشتغال والبراءة على مذهب العدليّة حسبما ذكرت على إطلاقه ممنوع ، لجواز مسيس الحاجة إلى استصحابها في بعض الأحيان ، كما لو شكّ في بقاء الاشتغال أو البراءة المثبتين بقاعدتيهما في زمان بعد اليقين بهما في زمان سابق عليه ، فيحكم ببقائهما استصحابا للحكم العقلي المذكور.
لأنّ العقل إنّما حكم بذلك الحكم في موضوع وهو الشاكّ في البراءة في حكمه بالاشتغال ، والشاكّ في التكليف في حكمه بالبراءة ، وهذا الموضوع إن كان مرتفعا في الزمان الثاني فلا معنى لاستصحابه حكم العقل فيه ، لاستحالة الاستصحاب مع ارتفاع موضوع المستصحب ، وإن كان باقيا فلا يعقل الشكّ في بقاء حكمه العقلي لتمسّ الحاجة