ولهذا السبب لابد من التأمل في أمر وسرّ هذه الظاهرة العجيبة ولابد أن نتساءل :
كيف تحقق ذلك التطورُ العظيم ، وذلك التحول العميق للعرب الجاهلية ، ومن اين نشأ؟؟
كيف امكن ان تتحول جماعة متشتتة ، متعادية ، متناحرة ، متباغضة ، في ما بينها ، بعيدة عن النظم الإجتماعية ، بمثل هذه السرعة إلى اُمّة متآلفة متاخية متعاونة متسالمة متحابة ، وتشكل دولة قوية كياناً سياسياً شامخاً أوجب أن تخضع لها دول العالم وشعوبه ، وتطيعها ، وتحترم مبادءها واخلاقها وآدابها آنذاك.
حقاً لو كان في مقدور العرب أن يحرزوا ذلك التقدم الهائل بفعل عامل ذاتي فلماذا لم تستطع عربُ اليمن الّذين كانوا يمتلكون شيئاً كبيراً من الثقافة والحضارة ، والذين عاشوا الانظمة الملكية سنيناً عديدة ، بل وربَّت في احضانها ملوكاً وقادة كباراً ، أن تصل إلى مثل هذه النهضة العظيمة الشاملة ، وتقيم مثل هذه الحضارة العريضة الخالدة.
لماذا لم تستطع العربُ الغساسنَة الذين كانوا يجاورون بلادَ الشام المتحضرة ، ويعيشون تحت ظلّ حضارة « الروم » أن يصلوا إلى هذه الدرجة من الرشد؟
لماذا لم تستطع عربُ الحيرَة الذينَ كانُوا ـ وإلى الامس القريب ـ يعيشون في ظلّ الامبراطورية الفارسية أن ينالوا مثل هذا الرقي والتقدم؟ وحتّى لووصلوا إلى هذه الدرجة من التقدم وحققوا هذه القفزة فانه لم يكن أمراً يثير العجب لأنهم كانوا يعيشون في أحضان مدنيات كبرى ، ويتغذون منها ، ولكن الّذي يثير الدهشة ، والعجب هو أن تستطيع عرب الحجاز من تحقيق هذه النهضة الباهرة ، ويرثوا الحضارة الإسلامية العظمى وهم الذين كانوا يفتقرون إلى أبسط مقوّمات الحضارة الذاتية ، ولم يكن لهم عهدٌ بأيَّ تاريخ حضاريّ مشرق ، بل كانُوا كما عرفت يرزحون تحت أغلال الوَهْم والتخَيُّل ، ويسيرون في ظلمات الخرافات والأساطير.
* * *