جعل البحر الأبيض المتوسط بحيرة بيزنطية مرة أخرى. وكان جوستنيان يرى نفسه وارثا للإمبراطورية الرومانية ، وتصرف على هذا الأساس ، تحت شعار «دولة واحدة ، قانون واحد ، كنيسة واحدة». ولهذا الغرض جمع في يده السلطة السياسية والدينية والإدارية ، وتعامل مع النزعات الانفصالية والطوائف الدينية غير الأورثوذكسية بحزم وصرامة. وكان محبّا للبناء والإعمار ، إذ بنى كنائس فخمة متعددة ، وأقام مشاريع كثيرة ، وأولى إدارة الدولة اهتماما كبيرا. لكنه بنشاطه العسكري أفقر خزينة الدولة ، وبانصرافه للعمل العسكري في الغرب ، فتح الباب أمام ملك فارس ، كسرى أنو شروان لمهاجمته من الشرق ، الأمر الذي اضطره إلى البحث عن السلام مع كسرى بشروط قاسية ومذلة ، ولقاء جزية سنوية ضخمة (٥٣٢ م).
لكن السلام مع الفرس ، الذي اشتراه جوستنيان بأتاوة كبيرة لم يكن ليستمر. ففي سنة ٥٧٢ م ، فتح الصراع مرة أخرى ، واستمر طويلا حتى حسم سنة ٦٢٩ م ، على أيدي هيراكليوس (٦١٠ ـ ٦٤١ م). وكان هيراكليوس (هرقل) ، الإمبراطور النشيط والقدير ، قد تولى السلطة في بيزنطة بعد فترة من الفوضى والهزائم على أيدي الفرس ، في أيام سلفه فوكاس. وبادر الفرس مرة أخرى (٦١١ م) إلى غزو سورية واحتلال عاصمتها أنطاكيا المدينة الرئيسية في الولايات الشرقية ، ثم تابعوا زحفهم إلى دمشق ، فاحتلوها (٦١٣ م) ، ومنها إلى فلسطين (٦١٤ م) ، فاحتلوها بمساعدة اليهود الذين انضموا إلى الجيش الفارسي. وانتقم الفرس ، ومعهم اليهود من المدينة المسيحية إيليا كابيتولينا ، فهدموا كنائسها وأديرتها ومعالمها المسيحية ، ونهبوها ، وذبحوا الكثيرين من سكانها ، وحملوا معهم «الصليب المقدس» ، والبطريرك زاكاريوس إلى بلادهم.
وهذا الاجتياح الفارسي لم يتوقف عند بلاد الشام ، بل تعداها إلى مصر وآسيا الصغرى. وسقطت الإسكندرية (٦١٨ م) ، في حين تقدم الجيش الفارسي إلى «كابادوكيا» ، وعسكر في مقابل القسطنطينية. وبعد تردد ، قرر هيراكليوس البدء بالحرب ضد الفرس. وكانت حملته في ربيع سنة ٦٢٢ م بمثابة حملة صليبية لاستعادة إيليا كابيتولينا و «الصليب المقدس». وتضامنت الكنيسة مع الإمبراطور بكل ثقلها ، المادي والمعنوي. وإضافة إلى النشاط التحريضي ، وشحذ الهمم للانضمام إلى الحملة ، قدمت الكنيسة مدخراتها وكنوزها لدعم الجيش والإمبراطور ، الذي وجد خزينة الدولة فارغة عندما تسلم الحكم من فوكاس. وفي سلسلة من الحملات الناجحة في آسيا الصغرى وغيرها ، وخصوصا في أرمينيا ـ المستودع البشري لجيشه ـ استطاع هيراكليوس أن يحطم القوة العسكرية الفارسية. وأخيرا ، عقد الطرفان صلحا