وإذ لم يسد الوئام بين أطراف البيت الأيوبي ، وكثيرا ما تخاصموا واقتتلوا ، وحتى تحالف بعضهم مع الفرنجة ضد بعض ، فقد ظلت «رابطة الدم» بينهم هي الأقوى على العموم. ولذلك نجدهم يتخاصمون ويتقاتلون ، ثم لا يلبثون أن يتصالحوا وفق ترتيب جديد ، من إعادة تقسيم التركة. وعلى العموم ، ظلت فلسطين في قلب صراعات بني أيوب ـ خارجيا وداخليا.
وبعد النصر في حطين ، استرد صلاح الدين فلسطين معظمها ، ورحل عنها الفرنجة ، وتجمعوا في الساحل. وعمد صلاح الدين إلى إعمار المناطق التي وقعت في يده ، فأحياها. وفضلا عن الفلاحين الذين عادوا ليزرعوا الأرض في الريف ، جاء العمال والحرفيون والتجار والأئمة والأساتذة. وبدلا من الإقطاع الفرنجي نصّب صلاح الدين بعض قادة جنده أولياء للأمور ، ونزل معهم عسكرهم وعيالهم. وجاءت قبائل عربية موالية له واستقرت في الريف ، وتحولت إلى الزراعة. وبرز ذلك في منطقة القدس ، التي أولاها صلاح الدين اهتمامه. وكان يعلم أن الفرنجة لم يتخلوا عن فكرة استعادتها. وفي أثناء وجودهم فيها ، أقاموا علاقات مع القبائل في محيطها. فاستبدلهم صلاح الدين بقبائل أخرى ، وأسكنها القدس ومحيطها. ومن هذه القبائل التي قاتلت معه ونزلت القدس ـ بنو الحارث وبنو مرّة وبنو سعد وبنو زيد والجرامنة.
وشهدت فلسطين في أيام الأيوبيين التابعين ازدهارا عاما ، في الزراعة كما في التجارة والصناعة. فالمعاهدات التي عقدت بين الطرفين أتاحت قيام علاقات تجارية واسعة النطاق. ومع أن جزءا من تجارة فلسطين أيام الفرنجة قد تحوّل إلى مصر ، فإن نشاط موانىء الساحل السوري لم يتوقف. وكانت أساطيل المدن التجارية الأوروبية تتنقل بحرية بين الساحلين ـ السوري والمصري ـ من جهة ، والسواحل الأوروبية ، من جهة أخرى. وحتى في زمن الحرب لم تتوقف تلك الحركة لاهتمام الجانبين بهذه التجارة المربحة بين الشرق الأقصى والغرب ، والتي أدّى البحر الأبيض المتوسط دورا مركزيا فيها ، وكانت الموانىء على ساحله الشرقي مراكز أساسية للتبادل فيها. وكذلك ، فقد اهتم الأيوبيون ، أو بعضهم على الأقل (العادل والكامل مثلا) بالعمارة وبناء الطرق والجسور وقنوات المياه وغيرها ، الأمر الذي شجع على تطوير الزراعة والصناعة والتجارة والعمالة. كما أولى الأيوبيون الأمن على الطريق عنايتهم الخاصة ، وكبحوا قبائل البدو عن تهديدها ، كما وطنوا عددا كبيرا منها ، فاشتغل أفرادها بالزراعة والتجارة.
وأولى الأيوبيون عناية خاصة لإعادة الطابع الإسلامي إلى القدس ، بعد التغييرات التي طرأت عليها أيام الفرنجة. فصلاح الدين بداية ، وحالما دخلها ،