والاستئثار بالحكم ، طور المماليك البرجية «الخشداشية» (رفقة التربية في الطباق) ، والتي تدهورت لاحقا لتجعل من أعضائها عصابة ، تدعم هذا الأمير أو ذاك ، وتتناحر على السلطة والجاه والمال.
وتميّزت فترة حكم المماليك البرجية بالفساد ، ومن قمة هرم السلطة إلى قاعدتها. وعرف الكثيرون من السلاطين بالجهل والعسف ، فكان منهم من لم يحسن الكلام بالعربية ، ومن لا يفقه من علوم الدين شيئا. وأمّا نشاطهم العمراني ، وكذلك صراعاتهم وشراء الذمم ، فقد اضطرتهم إلى البحث عن مصادر المال بالوسائل كلها. فزادوا الضرائب واحتكروا الأسواق (الطرح) وصادروا المحاصيل وظلموا الناس واستبدوا بهم ، ففرت أعداد منهم إلى الريف والجبال. وكما نالت فلسطين قسطها من محاسن الحكم الملوكي ، كذلك طالها نصيبها من مساوئهم. ومنذ بداية القرن الخامس عشر ، راحت أحوالها تسوء بصورة عامة. ولكنها شهدت فترة من الهدوء والانتعاش النسبي في أثناء سلطنة بارسباي (١٤٢٢ ـ ١٤٣٨ م) ، وخلفه جقمق (١٤٣٨ ـ ١٤٥٣ م). وفي النصف الثاني من القرن الخامس عشر ، تردى الوضع كثيرا في بلاد الشام ، وزاد ظلم المماليك في الناس بذريعة الحرب مع «العثمانيين». وكان الناس ينتظرون خلاصهم من ظلم المماليك على أيدي الأتراك من بني عثمان.
بعد التراجع الكبير الذي أصابها في أثناء الاحتلال الفرنجي ، عادت الكثافة السكانية العربية في فلسطين وتعززت في العصر الأيوبي ، لكنها بلغت حدودا أكبر أيام المماليك الأولى. ففلسطين ، أسوة ببلاد الشام كلها ومصر ، استقبلت أعدادا كبيرة من المهاجرين ، العرب وسواهم ، ومن الطبقات والفئات الاجتماعية المتعددة ، الذين اضطرهم الغزو المغولي البربري إلى البحث عن ملجأ آمن من التنكيل ، فشكّلت الأراضي الواقعة تحت حكم المماليك بؤرة جذب إلى هؤلاء. كما أن إعادة بناء مدن الداخل الفلسطيني ، وتوزيع أراضي الفرنجة على مالكين جدد ، والازدهار الذي نعمت به البلاد ، وخصوصا القدس وصفد ، جلبت إلى البلاد أعدادا كبيرة من السكان. غير أنه منذ منتصف القرن الرابع عشر ، عادت هذه الكثافة السكانية إلى التراجع ، وذلك لتضافر عوامل سلبية ، ذاتية وموضوعية. فتدهور أوضاع الحكم المملوكي عامة ، ترافق مع سلسلة من الكوارث الطبيعية ـ الوباء والقحط ـ ليكبح النمو السكاني ، وليفرض عليه انحسارا كبيرا ، تقلص بسببه عدد السكان في البلد كثيرا.
والطاعون الذي ضرب العالم كله في منتصف القرن الرابع عشر الميلادي ، أصاب الشرق واقتصّ ضريبة عالية جدّا بالأرواح. وتذكر المصادر العربية تفشي هذا المرض في القرن الخامس عشر مرات عدة في السنوات ١٤٣٨ و ١٤٦٩ و ١٤٧٦