وفي الواقع ، وبغض النظر عن الدعاية الصهيونية التي تروج غياب الوعي الوطني لدى العرب الفلسطينيين ، وتركز على انتمائهم الطائفي ، وتبرز خلو الأرض من السكان ، وصولا إلى مقولة الزعيم الصهيوني ، يسرائيل زانغويل ، «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض» ، فإنه ما من مستعمرة صهيونية قامت في فلسطين ، ومنذ البداية ، من دون صراع مع جوارها ـ من الفلاحين أو البدو. والدعاية الصهيونية الموجهة ، الرامية إلى تغييب سكان فلسطين الأصليين ، لتبرير منح الحركة الصهيونية «البراءة الدولية» ، تفضحها محاضر جلسات لجان المستعمرات ، ومذكرات المستوطنين الأوائل ، التي أبرزت شكواهم من المقاومة العربية. وهذه الدعاية المضللة والكاذبة تفضحها بصورة صارخة الذرائع والتبريرات التي ساقها المستوطنون لإنشاء وحدات مسلحة لحماية المستعمرات. كما يدحضها الجدل بين المستوطنين الأوائل ورجال الهجرة الثانية ، بشأن ضرورة استبدال الحراس العرب بمهاجرين يهود للقيام بالدفاع عن المستعمرات أمام هجمات المقاومين العرب. كما تكشف مراسلات القناصل الأجانب زيف هذه الدعاية ، إذ دأب هؤلاء على الطلب من السلطة العثمانية إبعاد الفلاحين العرب عن الأرض بالقوة ، وتثبيت المستوطنين الجدد عليها ، وحمايتهم.
ولعل تدخل قناصل الدول الأوروبية ، وخصوصا البريطاني ، كان من أهم عوامل إحباط المقاومة العربية ، إضافة إلى فساد جهاز الحكومة التركي. ففي مقابل الضغط الروسي على السلطنة لمنع هجرة يهودها إلى فلسطين ، خوفا من الإخلال بالوضع القائم حول الأماكن المقدسة ، وبالتالي بالامتياز الذي تتمتع به بحسب معاهدة كوتشوك كاينرجي لحماية المسيحيين الأورثوذكس ، تحرك قناصل الدول الأخرى لدعم الهجرة اليهودية. والقيود التي فرضتها السلطنة على هجرة يهود روسيا منذ بداية الثمانينات ، حركت ردة فعل قناصل الدول الأوروبية (١٨٨٤ م). واضطرت السلطنة إلى تخفيف تلك القيود ، استجابة لادعاء تلك الدول بأنها تخالف مبادىء الامتيازات التي يتمتع بها مواطنوها. وكان المهاجرون اليهود يحتفظون بجنسياتهم الأصلية ، أو يدخلون لدى وصولهم تحت حماية إحدى الدول ، الأمر الذي يعطي الذريعة الشكلية لقنصلها للتدخل لدى السلطات العثمانية وتأمين إقامتهم في البلد. كما كان القناصل يستغلون فساد الموظفين الأتراك ، ويجعلونهم بالرشاوى يلتفون على أوامر الدولة ، ويختلقون الذرائع لمعاقبة المقاومين العرب ، وإخلاء سبيل المستوطنين المعتدين ، أو المخالفين للأنظمة والقوانين.
ومع ذلك ، تشير الدلائل كلها ، إلى أن حركة الاستيطان الصهيوني ، المدعومة