النشاشيبي ، الذي دعا إلى وضع تشريع خاص ، يرمي إلى منع بيع الأراضي للمستوطنين. كما هاجم الامتيازات الممنوحة للدول الأجنبية ، والتي تغطي التفاف الحركة الصهيونية على القوانين السائدة في البلاد.
إلّا إنه على الرغم من مقاومة الفلاحين والبدو العنيفة ، وحملات الصحف التحريضية ، ونشاط القوى السياسية ، فقد استمر الاستيطان الصهيوني ، بل تعزز عبر «الهجرة الثانية» (١٩٠٤ ـ ١٩١٤ م). ولم تحل القيود على الهجرة ، وقوانين منع بيع الأراضي للمستوطنين ، دون استمرار تلك الهجرة وشراء الأراضي. وقد تضافرت عدة عوامل لجعل ذلك ممكنا : فساد جهاز الدولة العثماني وتواطؤ العثمانيين الجدد مع الأهداف الصهيونية ونشاط قناصل الدول الأجنبية لمصلحتها وغيرها. ويبقى من أهم عوامل استمرار الاستيطان تمكّن الحركة الصهيونية من شراء الأراضي. وقد أدّت طبيعة ملكية الأرض في البلاد دورا رئيسيا في ذلك. وبينما كانت الدولة تملك الجزء الأكبر من «الأرض الميري» ، فقد تركزت مساحات واسعة منها في أيدي ملاكين غائبين ، وضعوا يدهم عليها عبر الالتزام ، أو الشراء بالمزاد العلني من الدولة التي صادرتها لعجز الفلاحين عن دفع الضرائب المستحقة عليها. وتفيد المصادر أن ما باعه الفلاحون في الفترة ١٩٠١ ـ ١٩١٤ م لا يتجاوز ٣ ، ٤% من مجموع ما اشترته الحركة الصهيونية ، والباقي تم شراؤه من الدولة ، أو من الملاكين الغائبين.
وكذلك ، بغض النظر عن الحملات الصحافية ، والنشاط السياسي المناهض لبيع الأراضي ، والدعوات المتكررة للملاكين إلى الكف عن عقد الصفقات العقارية مع الحركة الصهيونية ، مباشرة أو مداورة ، فقد استمر هذا البيع. ووجهت صحيفتا «الكرمل» و «فلسطين» انتقادات عنيفة إلى الملاكين الكبار ، الذين يتظاهرون بالحرص على المصلحة الوطنية ، ويتواطؤون مع السلطة العثمانية على بيع الأراضي ، وجني الأرباح الطائلة منه. وكان بعض العائلات ، من سكان المدن ، يملك مساحات واسعة من الأراضي في الريف ، تمّ وضع اليد عليها بوسائل شتى. كما ساعدت قوانين الإصلاحات العثمانية المتعلقة بملكية الأراضي في تمركز مساحات كبيرة إضافية في أيدي تلك العائلات ، إذ عمد الكثيرون من الفلاحين إلى تسجيل أراضيهم باسم تلك العائلات ، تهربا من الضرائب والجندية. وبسبب ديونهم ، باع الفلاحون تلك الأراضي ، أو صادرتها الدولة وباعتها بالمزاد العلني ، فاشتراها التجار والإقطاعيون وسماسرة العقارات ، أو المؤسسات الأجنبية.
وقد رضخ بعض العائلات ، ممن كانت الأرض بالنسبة إليها عبارة عن سلعة ، وخصوصا أنها لم تكن تقيم عليها ، لإغراءات العروض السخية التي قدمها إليها