إلّا إن التدابير العملية التي اتخذتها الإدارات المحلية ، وأحيانا بإيحاء من المركز ، لم تثبت فعاليتها في إيقاف تلك الهجرة.
وفضلا عن عامل التدخل الأجنبي في إستنبول وموسكو وبوخارست ، في تنشيط الهجرة اليهودية مجددا إلى فلسطين (١٨٩٠ ـ ١٨٩١ م) ، تضافرت عوامل أخرى لدفع هذه الظاهرة. فبفضل الإجراءات التي اتخذتها إدارة البارون روتشيلد في تحويل بعض المستعمرات إلى زراعة كروم العنب وتأسيس معصرتين للنبيذ ـ واحدة في ريشون لتسيون ، والثانية في زخرون يعقوف ـ وتحقيق إنتاج أفضل وأسعار أعلى ، انتعش قطاع من المستوطنين ، وأصبح عامل جذب للمزيد منهم. وقد تواكب ذلك مع تصعيد الحكومة الروسية لإجراءات القمع ضد اليهود ، وصولا إلى طردهم من موسكو ، من جهة ، والسماح لهم بالهجرة ، من جهة أخرى. وقام مكتبا أوديسا ويافا بدور كبير في تسريع الهجرة وتسهيل إجراءاتها. ونشط مكتب يافا ، بقيادة زئيف طيومكن ، في إعداد المشاريع الإنتاجية ـ شراء الأراضي وزراعة الأشجار المثمرة وانتاج النبيذ ... إلخ ـ فازدهر الاستيطان ، وبالتالي الهجرة. ولكن ذلك لم يدم طويلا ، إذ عادت السلطات العثمانية لوضع القيود على النشاط الصهيوني ، لكن الموظفين المحليين الفاسدين لم يكونوا حازمين في تنفيذ الأوامر والقوانين ، فبقيت الهجرة مستمرة بأساليب ملتوية وغير شرعية.
ونتيجة فساد الموظفين العثمانيين ، وتعاون حفنة من الزعماء المحليين ـ رؤساء عائلات وشيوخ قبائل ومتمولين ـ ازدهرت السمسرة بالأراضي ، وبيعت مساحات منها للحركة الصهيونية. فعقدت صفقات سرّية كبيرة لشراء أراض في مرج ابن عامر وسهل عكا ، لكنها عطلت قبل إنجازها ، وذهبت هدرا المبالغ الي دفعت رشوة. ومع ذلك ، حققت هذه النشاطات نجاحات معينة ، كما حدث مع السمسار الصهيوني يهوشوع خانكين ، الذي اشترى أراضي رحوفوت والخضيرة ، بأساليب ملتوية. غير أن الفشل ظل السمة العامة لكل المشروع الصهيوني. ولما باءت بالفشل جميع محاولات إدارة البارون روتشيلد لتحويل المستعمرات الصهيونية الزراعية إلى ظاهرة قابلة للحياة بقواها الذاتية ، عهد بإدارتها إلى الشركة الكولونيالية «بيكا». وكان البارون اليهودي الألماني هيرش ، قد أسس هذه الشركة (١٨٩١ م) لتعمل أصلا في الأرجنتين ، لكنها أسست لها فرعا في فلسطين أيضا. وكانت هذه الشركة استثمارية صرفة ، تحاكي في نمط عملها الشركات الأوروبية الأخرى.
وبإدارة شركة بيكا ، تحول المستوطنون إلى أصحاب مزارع ، يعتمدون في تشغيلها على العمال العرب المأجورين ، ويكسبون من استغلال طاقة عمل السكان