السوداء محور أحاديث الناس ، وأصبح «السفر برلك» (التجنيد) مرادفا للظلم والجوع والمرض والمطاردة والنهب والخراب.
وبانقسام الوطن العربي إلى منطقتي نفوذ للحلفين المتحاربين ، وبالتالي إلى مسرحين للعمليات العسكرية ، فقد سعى كل منهما لاستغلال حالة التذمر لدى السكان ضد القوة الحاكمة في الجانب الآخر ، وتوظيف كراهيتهم لاستعمارها في عمل عسكري ضدها. فاستغل الألمان والأتراك النضال ضد المستعمرين الإنكليز والفرنسيين والإيطاليين في شمال إفريقيا والسودان ، وقدموا له الدعم. وبلغ هذا النضال ذروته في المغرب ، الذي أطلقت عليه فرنسا اسم «الجبهة الثانية». وكذلك الأمر في ليبيا ، إذ لم يبق بيد الإيطاليين في بداية سنة ١٩١٥ م سوى شريط ضيق في الساحل. وقام رجال القبائل الليبية بغزوات ضد الإنكليز في مصر. في المقابل ، استغلت إنكلترا وفرنسا الحركة القومية العربية في المشرق والجزيرة ، ودعمتاها وحرضتاها على القيام بانتفاضة ضد الحكم التركي. وقد حققتا نجاحا كبيرا على هذا الصعيد ، إذ عبر الشريف حسين أقامتا اتصالات مع القوى القومية العربية ، التي شكّلت جيشا انضم إلى الحلفاء ضد تركيا.
وبحسب الخطة ، تولى الجيش التركي القتال على جبهتين ـ القفقاس وقناة السويس. وكان الجيش الرابع ، بقيادة أحمد جمال باشا ، يخطط لعبور قناة السويس إلى مصر ، ونقل ساحة العمليات إلى إفريقيا ، وذلك بالاستناد إلى دعم السكان المفترض ، استجابة لدعوة «الجهاد» التي أطلقها السلطان في تشرين الأول / أكتوبر ١٩١٤ م. وكانت القيادة الحقيقية لهذا الجيش بيد الكولونيل كريس فون كريسنشتاين ، الملحق العسكري الألماني في دمشق. وقد عسكر هذا الجيش في بلاد الشام ، التي لم تكن مهيّأة لذلك اقتصاديا ، فقاسى سكانها الأمرين من نزول هذا الجيش بين ظهرانيهم. ولتموينه ، صادرت السلطات المواد الغذائية والمواشي والمحاصيل. وللوقود اللازم له ، قطعت الأشجار ، حتى المثمرة. ولأعمال السخرة سحب الفلاحون من قراهم إلى خطوط الجبهة لحفر الخنادق وغيره من الأعمال. فساءت أوضاع البلاد الاقتصادية ، واختفت البضائع من الأسواق ، واستشرت أعمال السوق السوداء ، وصولا إلى المجاعة والأوبئة. وخلال أعوام الحرب الأربعة. هلك مئات الآلاف من الناس جوعا ومرضا في بلاد الشام والعراق.
وجاء دخول تركيا الحرب ، وبالتالي نقل مسرح عملياتها إلى الشرق ، وسلوك الجيش التركي المتسيب ، وسياسة القمع التي تبناها جمال باشا ، لتفاقم نقمة السكان العرب على الحكم العثماني. وكانت الحكومة التركية قد قلدت جمال باشا صلاحيات