تزال خارج الدعوة الصهيونية ، وتيارات قوية بينهم تعارضها بشدة ، ولأسباب متعددة ـ فكرية ودينية وسياسية واجتماعية. وأغلبية يهود أوروبا الشرقية ، حيث الشعور بوطأة المسألة اليهودية ، كانت تفضل الهجرة إلى الولايات المتحدة ، وليس إلى فلسطين. في المقابل كانت المقاومة العربية للمشروع الصهيوني في تصاعد ، والاستيطان اليهودي في تراجع ، وهو ليس في موقع يتيح له التصدي لهذه المقاومة. ولمجمل هذه الأسباب ، أرادت انقيادة الصهيونية من حكومة بريطانيا وضع فلسطين تحت انتدابها ، لتشكل بذلك حاضنة للمشروع الصهيوني ، ولترعى بناءه وتهيئته للتحول إلى دولة يهودية عندما تتهيّأ الظروف الذاتية والموضوعية لذلك.
وفي مؤتمر السلام ، الذي انعقد في باريس في ١ كانون الثاني / يناير ١٩١٩ م لتسوية القضايا الناجمة عن نهاية الحرب ، وبناء على نتائجها ، والذي حضره الأمير فيصل بن الحسين ، نيابة عن والده ، كان الوفد العربي في موقع الدفاع بشأن مصير «الدولة العربية» الموعودة ، بينما كانت الحركة الصهيونية في موقع الهجوم بشأن فلسطين. ومرة أخرى تكرّر المشهد ـ الهمّ العربي الاستقلال ، والصهيوني فلسطين. وبينما كان الوفد العربي ، برئاسة فيصل ، واحتضان بريطانيا ، يصارع للمشاركة في المؤتمر ، على أرضية عهود مكماهون للشريف حسين ، وبالتالي دخول العرب الحرب إلى جانب الحلفاء ، الأمر الذي عارضته فرنسا في البداية ، ثم تراجعت ، كانت الوفود الصهيونية المتعددة تسعى لتكريس وعد بلفور في وثائق المؤتمر ، وضمان تنفيذه عبر الانتداب البريطاني على فلسطين. أمّا في فلسطين ، فقد قامت إدارة عسكرية بريطانية بقيادة الجنرال كلايتون وسعت منذ البداية لتهدئة ردة الفعل العربية على وعد بلفور خاصة ، وعلى تراجع الحلفاء عن تعهداتهم للعرب بالاستقلال عامة. في المقابل ، سارع قادة العمل الصهيوني إلى إيجاد أمر واقع في فلسطين ، يضمن تجسيد وعد بلفور ، فاصطدم النشاط الصهيوني المحموم للإسراع في إعلان فلسطين وطنا قوميا يهوديا ، بالسياسة المتروية التي انتهجتها الإدارة العسكرية.
لقد ظل اتفاق سايكس ـ بيكو طيّ الكتمان إلى أن كشفت النقاب عنه حكومة روسيا السوفياتية (تشرين الثاني / نوفمبر ١٩١٧ م) ، ومع ذلك ، نفت الدولتان ـ بريطانيا وفرنسا ـ وجود مثل هذا الاتفاق للحؤول دون انقلاب العرب عليهما ، والانحياز إلى التحالف مع تركيا وألمانيا في الحرب. وذهب مهندسا الاتفاق ، سايكس الإنكليزي ، وبيكو الفرنسي ، إلى الحجاز لطمأنة الشريف حسين ، وكذبا عليه بنفيهما وجود مثل هذا الاتفاق. ولكن الأحداث اللاحقة كشفت أن بريطانيا رأت في الاتفاق مناورة مرحلية تتطلبها أوضاع الحرب ، ولم تكن قط تقصد تنفيذه بصيغته. وجاء صدور وعد