الأخرى ، أو غيابها ، في غير مصلحة علاقة الكنعانيين وسواهم بفلسطين. ولكنهم ـ وعلى العكس من ذلك تماما ـ عندما كان الأمر يتعلق بالعبرانيين عملوا على سدّ الثغرات بتأويلات واجتهادات لا تصمد أمام النقد العلمي. وزجت التوراة ، التي هي كتاب ديني في الأصل ، وليس مصدرا تاريخيا ، في خدمة هدف تغييب الشعوب التي عمّرت فلسطين ، وبالتالي إبراز الحضور الإسرائيلي ، الذي استحوذ بدوره ، من دون غيره ، على الإرث العبراني في تاريخ فلسطين. وراح الباحثون في الدراسات والآثار التوراتية يواجهون معارضيهم في الرأي بالسؤال : هل لديكم مصدر أفضل يدحض ما تورده التوراة؟
وفي الواقع ، فإن ما يتوفر حتى الآن من مصادر مكتوبة وغيرها ، يدحض الرواية التوراتية ، ليس في العام فحسب ، بل في الخاص أيضا. ففي المصادر ـ المصرية والعراقية والسورية ـ لا توجد إشارات معاصرة لما تسميه التوراة أبناء إسرائيل ، أو لمن له علاقة توراتية بهم ، قبل القرن الثاني عشر قبل الميلاد ، وحتى في القرون اللاحقة ، بما في ذلك مملكة داود وسليمان ، فالإشارات قليلة جدا ، ولا توحي بأهمية خاصة لهذه الظاهرة المركزية في التوراة. في المقابل ، هناك غياب لأية دلائل في التوراة ، تنم عن معرفة كتبتها بمصر والعراق أو بلاد الشام ، في الألف الثاني قبل الميلاد ، والذي تسميه الدراسات التوراتية عصر الآباء ، أي عصر إبراهيم وإسحاق ويعقوب ، ولا حتى معرفة محددة بمسألة دخول العبرانيين إلى مصر ، وخروجهم منها ، والروايات متناقضة.
ويلفت الانتباه حقا غياب أي ذكر في التوراة للإمبراطورية المصرية التي كانت تحكم أرض ـ كنعان في عصر الآباء ، كما تسميه. وكتبة التوراة لا علم لهم بالحملات الفرعونية المتكررة في غرب آسيا ، ولا بالتغلغل الحوري والحثي. وليست لهم دراية بحكام مدن ـ الدولة المنتشرة في كل أرجاء البلد ، وحتى أسماء الفراعنة العظام في هذه الفترة الطويلة غير معروفة لديهم. في المقابل ، هناك عملقة لشخصيات لم تجد المصادر الخارجية أية أهمية لذكرها ، فغابت عنها تماما. وعلاوة على ذلك ، هناك خلط بالأحداث وبأسماء المواقع والتواريخ. ومثل هذا الجهل بالواقع الذي حاول كتبة التوراة توظيفه ، يضع علامة استفهام كبرى على تأريخية الروايات التوراتية. ويتضح لنا من الأمور المعروفة حتى الآن عن تاريخ الشرق الأدنى القديم ، وهي غير قليلة ، أن بؤرة اهتمام التوراة هي جماعة هامشية ، لم تترك بصماتها على المحيط الذي عاشت فيه. ولذا ، فالأهمية الكبيرة التي يوليها كتبة التوراة لهذه الجماعة ـ العبرانيين والإسرائيليين ـ لا تجد لها صدى في المصادر الأخرى. وبناء