ومن الأمثال التي تدلّك على غلوّهم في هذا الباب أنّ جرير بن عطية الشاعر ـ وكان من تميم ـ قال في إحدى مفاخراته للأخطل التغلبي :
إنّ الذي حرم المكارم تغلبا |
|
جعل النّبوّة والخلافة فينا |
مضر أبي وأبو الملوك جميعهم |
|
فاعلم فليس أبوكم كأبينا |
هذا ابن عمّي في دمشق خليفة |
|
لو شئت ساقكم إليّ قطينا |
فلما بلغ ذلك عبد الملك بن مروان الخليفة الأموي ضحك ، وقال : ما زاد ابن الفاعلة على أن جعلني شرطيا عنده!! ثم قال وقد نبض به عرق العصبية لمضر : أما والله لو شاء لسقتهم إليه.
ولم يكن ليفتّ في عضد هذه العصبية الغالية سوى العقيدة الإسلامية التي جعلت الإسلام هو العروة الوثقى وجعلت أخوته فوق كل رابطة. ولذلك قيل : إن العرب لم يكونوا ليتحدوا في يوم من الأيام إلا بالإسلام ، ولو لا الإسلام لبقوا شعوبا وقبائل يقتتلون في جزيرة العرب إلى يوم القيامة ، وبأسهم أبدا بينهم ، فلما جاء الإسلام ووحّد بينهم في الدين ، وقال الله تعالى : (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً) [آل عمران : ١٠٣] لم يلبثوا أن خرجوا من جزيرة العرب بقوة الاتحاد ؛ ففتحوا نصف العالم في ثمانين سنة ، ولم يقف في وجههم شيء.
ولكن بعد أن بعد عهدهم بعهد النبوة وخلافة الراشدين ؛ ضعفت فيهم العقيدة التي كانت هي مدار العمل عند سلفهم ، وعادت فتجدّدت بينهم العصبيات الموروثة عن الجاهلية ، فرجعوا يقتتلون على المضرية واليمنية في الإسلام ، كما كانوا يقتتلون قبل الإسلام ، ورجع بذلك زرعهم هشيما ، وبدرهم عرجونا قديما.
فكما أن الأنساب كانت تثير فيهم الحميّة والنخوة ، وتبعث روح التنافس الحافز لهم على طلب المجد ؛ كانت تثير بينهم أيضا العداوات والفتن ، التي تصدع وحدتهم ، وتخمد في النهاية جمرتهم ، فأضرّت من حيث نفعت.