وقوله : (مِنْها قائِمٌ وَحَصِيدٌ) قال بعض أهل التأويل (مِنْها قائِمٌ) : ترى مكانها وتنظر إليها ، ومنها حصيد لا ترى له أثرا (١) ولا مكانا.
وقال بعضهم : قائم : أي : خاوية على عروشها ، وحصيد : مستأصلة (٢).
وعن الحسن قال : منها قائم وما حصد الله أكثر ، أي : وما أهلك الله من القرى أكثر. وأصله عندنا : منها قائم ؛ نحو قرى عاد وثمود ومدين ، أهلك أهلها وبقيت القرى لأهل الإسلام ؛ لأنه يقول في قرى عاد : (فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ) الآية [الأحقاف : ٢٥] ، ومنها حصيد : ما أهلك أهلها والقرى جميعا نحو قوم نوح ؛ أهلكوا ببنيانهم ، ونحو قريات قوم لوط أهلكت بأهلها أيضا حتى لم يبق لا الأهل ولا البنيان ، فذلك ـ والله أعلم ـ تأويل قوله : (مِنْها قائِمٌ) هلك أهلها وبقي البنيان ، ومنها حصيد : هو ما أهلك البنيان بأهله ، حتى لم يبق لها أثر ، وفيه وجوه ثلاثة :
أحدها : آية لرسالته (٣) ؛ لما ذكرناه وعبرة لأهل التقوى ، وهو ما ذكر في آخره : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) أي : عبرة لمن خاف عذاب الآخرة ، وزجرا لأهل الشرك والكفر ؛ لأنهم يذكرون ما نزل بأولئك فينزجرون عن صنيعهم (٤) فيه.
هذه الوجوه التي ذكرناها ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) قوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ) فيه وجهان :
أي : لم نظلمهم ؛ لأنهم وبنيانهم ملك لله ـ تعالى ـ وكل ذي ملك له أن يهلك ملكه ، ولا يوصف بالظلم من أتلف ملكه ، وهم ظلموا أنفسهم إذ أنفسهم ليست لهم في الحقيقة وكذلك بنيانهم ، ومن أتلف ملك غيره فهو ظالم.
والثاني : أن الظلم هو وضع الشيء في غير موضعه ؛ يقول : وما ظلمناهم بالعذاب ؛ إذ هم يستوجبون ذلك بما ارتكبوا ، فلم نضع العذاب في غير موضعه ؛ بل هم الذين وضعوا أنفسهم في غير موضعها ؛ حيث صرفوها إلى غير مالكها وعبدوا غيره ، فهو ظلم ؛ هذا التأويل في أنفسهم ، وأما البنيان فهو ، أنه إنما جعله لهم ، فإذا هلكوا هم أهلك ما جعل لهم ، إنما أبقي لهم ما داموا ، فأما إذا بادوا هم فلا معنى لإبقاء البنيان.
__________________
(١) في أ : نظرا.
(٢) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ١١٠) (١٨٥٥٩) عن قتادة ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣١) وعزاه لأبي الشيخ عن ابن جريج.
(٣) في أ : الرسالة.
(٤) في أ : صنعهم.