العذاب في الآخرة ، غير منقوص عنهم ذلك العذاب (١).
وقوله : (وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) إن كان التأويل في قوله : (فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ) على الإياس من قوم علم الله منهم أنهم لا يؤمنون ، فيكون تأويله ما ذكر في آية أخرى : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ ...) الآية [هود : ١٥] ، وإن كان الثاني فهو ما ذكر في آية أخرى قوله : (وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ ...) الآية [هود : ١١١].
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ) أي : التوراة (فَاخْتُلِفَ فِيهِ) أي : اختلف في الكتاب ، والاختلاف فيه يحتمل وجوها ثلاثة :
أحدها : في الإيمان به والكفر منهم ، من آمن به ، ومنهم من كفر.
والثاني : اختلفوا فيه : في الزيادة والنقصان ، والتبديل والتحويل والتحريف ؛ كقوله : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ ...) الآية [آل عمران : ٧٨] ، وكقوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ...) الآية [البقرة : ٧٩] وقوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [المائدة : ١٣] وأمثاله من الآيات.
والوجه الثالث : من الاختلاف : اختلفوا في تأويله وفي معناه بعد ما آمنوا به وقبلوه ، فالاختلاف في التأويل مما احتمل كتابنا ، وأمّا التبديل والتحويل والتحريف ، والزيادة والنقصان فإنه لا يحتمل لما ضمن الله حفظ هذا الكتاب بقوله : (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ) [الحجر : ٩] وقال : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ ...) الآية [فصلت : ٤٢] ، وجعله ميسرا على ألسن الناس وقلوبهم ، حتى من زاد ، أو نقص ، أو بدل ، أو حرف شيئا أو قدم ، أو أخر عرف ذلك ، فهو ـ والله أعلم ـ لما لا يحتمل إحكام هذا نسخها ولا شرائعه تبديلها ، وأما الكتب السالفة فإنما جعل حفظها إليهم بقوله : (بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللهِ) [المائدة : ٤٤] فهو ـ والله أعلم ـ لما احتمل شرائعها وأحكامها نسخها وتبديلها ، لذلك كان الأمر ما ذكرناه.
وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ) ذكر هذا لرسول الله صلىاللهعليهوسلم يصبره على ما اختلف فيه قومه في الكتاب الذي أنزل (٢) عليه ؛ يقول : وقد اختلف فيما أنزل على من كان قبلك كما اختلف فيما أنزل عليك.
__________________
(١) أخرجه بمعناه ابن جرير (٧ / ١٢٠) (١٨٦١١) عن ابن زيد ، وذكره السيوطي في الدر (٣ / ٦٣٦) وعزاه لابن أبي حاتم وأبي الشيخ عن ابن زيد.
(٢) في ب : نزل.