مصلحون ، إنما يهلك القرى إذا كان أهلها كلهم مفسدين ، أو عامة أهلها مفسدين ؛ هذا يدل [على] أن الحكم في الدار إنما يكون بغلبة أهلها : إن كان أكثر أهلها أهل الإسلام فالحكم حكم الإسلام ، وإن كان عامة أهلها أهل الحرب والكفر فالحكم حكمهم ، ولا يسمّى أهلها كلهم بالكفر والفساد إذا كان أكثر أهلها مصلحين ؛ ألا ترى أنه قال في قوم لوط : (إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ) سمى أهل [القرية](١) قرية وإن كان فيها لوط وأهله مصلحون لم يعد لوطا وأهله من أهلها.
وقوله : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ) أي : لا يكون في إهلاكهم ظالما.
ثم هو يخرج على وجهين :
أحدهما : أن الخلق له ، فهو بإهلاكه لم يكن ظالما ؛ لأنه أهلك ماله.
والثاني : أنه إنما يهلكهم بظلم كان منهم ؛ كقوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ ...) الآية ، أي : إنما يهلكهم بشيء اكتسبوه ، فهم بما اكتسبوا ظلموا أنفسهم ، وهو كقوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ).
وقوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً) قالت المعتزلة : هذه المشيئة مشيئة القهر والقسر ، وذلك مما يدفع (٢) المحنة ، ويزول لديه المثوبة والعقوبة ، وكذلك في قوله : (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) [يونس : ٩٩].
وأما عندنا فلو شاء لجعلهم أمة واحدة ، مشيئة لا تزول معها المحنة ، والذى يدل عليه خصال :
أحدها : أن الله تعالى قد عرفنا الإيمان والدين الذي يقع به اجتماع ، أو فيه الاختلاف بما ركب فينا من العقول التي بها نعرف حقائق الأشياء ومجازاتها ، ومحاسن الأمور وقبيحها ، بمعونة السمع أو بالتأمل فيما يحس (٣) بالأمرين جميعا أنه لا يكون إلا بالاختيار ، ولا يوصل إلى السبب الذي به يدان إلا بالاستدلال أو التعليم ؛ إذ هو طاعة وتصديق ، وذلك يكون ممن لا يحس (٤) ، وطريقه الاجتهاد ، وكل ذي أضداد القسر ، فمحال أن يعود الكون لو شاء على وجه قد عرفنا أنه لا يكون سمعا وعقلا ، فيكون في الحقيقة كأنه قال لو شاء أن يكون لا يكون ، على أن ذا من يقبل عنه هذه الدعوى على قولهم ، وهو منذ كان الخلق بين أن كان فيما شاء إثباته من أفعال الخلق فلم يكن ولم
__________________
(١) سقط في ب.
(٢) في ب : يرفع.
(٣) في أ : يحسن.
(٤) في أ : يحسن.