ومعلوم أنهم لو كفروا جميعا بما ذكر لكانوا مختارين ، وإلى ما جاءوا به غير مضطرين ، فإذا استقام كونهم على دين الكفر بذلك لا يحتمل ألا يوجب ذلك بقاء على الإيمان لو كانوا [مختارين لذلك يستقيم كونهم على دين الإيمان مختارين ، أو لو جعل ذلك للمؤمنين](١) فيقدرون (٢) على قولهم أن يجعلهم كفارا بالمحنة ، لا يقدر على أن يجعلهم مؤمنين بها ؛ لأن ذلك وصف العجز عندهم ، وإن كان لا يكون كذلك عندنا ؛ لأنه يستقيم القول بالأقدار على إحداث غيره ، ومحال القول على جعل غيره قديما ، أو على إحواج غيره إليه لا يحتمل الوصف بالقدرة على إغناء غيره عنه ، وعليهم أوضح ؛ إذ أجازوا [له](٣) القدرة على كل حركة للعبد وسكون بالاضطرار ، ولم يجوزوا في ذلك بالاختيار ، اللهم إلا أن يقولوا : لا يجوز أن يكون العبد غير كامل القدرة ، وهي القدرة على مضادات (٤) الأشياء ، والله يجوز له الوصف بالقدرة الناقصة ، فيكون قريبا مما جعلوا للعبد قدرة على ما يجهل الرب ، ويجعله كاذبا فيما يخبر على بقاء الربوبية له ، والله لا يقدر على مثله في العبد على بقاء العبودية (٥) له بالمحنة ، أو ما أقدروا العبد على إهلاك من وعد الله فيه الإبقاء ، ويريد ذلك ، وذلك فضله ، ووعد له مع ذلك أن يعطيه كذا ، فيأتي معاند فيقتله ، ويمنع الرب عن إنجاز وعده ، وعن سلطان بقائه ؛ جل الرب عن هذا ، وذلك في قولهم فيما يضرب الله لنبي أو صديق أجلا يرى به مصلحة عباده يقدر الكافر على قتله قبل مجيء ذلك الأجل ، وإبطال جميع ما وعد والإيفاء بما هو صنيعه من إبقاء الحياة فيه ، ولا يقدر الله على إنجاز ما وعد وإيفائه على ما أراد ، والعبد بحاله إلا أن يعجزه ، أو يميته ، أو يجعله زمنا ، والله المستعان.
ثم الأصل أن كل مريد بفعله فيما فعله أمرا لا يكون ذلك ، وهو لم يكن فعله إلا لذلك يوجب أحد أمرين في الحكمة : إما جهلا بالعواقب وخطأ بالفعل ؛ كمن يفعل فعلا يحزن عليه أو يلحقه به مكروه ، فهو لا يفعله له يظهر فاعله أنه عن جهل فعل ، وعلى الخطأ خرج فعله ، وعلى ذلك معنى التحذير في الخلق والتنبيه بقولهم : «لدوا للموت وابنوا للخراب» وسرق ليقطع ، وبارز ليقتل من حيث كان والثاني متصلا بالأول ينبه عن الغفلة على إرادة التحذير أنه إليه يئول أمر فعله وعلى ذلك قوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ ...)
__________________
(١) ما بين المعقوفين سقط في ب.
(٢) في ب : فيقدر.
(٣) سقط في ب.
(٤) في ب : مضادة.
(٥) في ب : العبودة.