وقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) تأويله ـ والله أعلم ـ : كل الذي نقص عليك أو قصصنا عليك من أنباء الرسل ، نبأ بعد نبأ ، ونبأ على إثر نبأ ؛ ما نثبت به فؤادك.
وقوله : (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) يحتمل وجوها.
أحدها : نثبت به فؤادك ؛ لما يحتمل أن نفسه كانت تنازعه وتناقشه بأن الذي أنزل عليه أو يأتى به ملك ، أو كان ذلك من إيحاء الشيطان وإلقائه عليه ووساوسه ، فقص عليه من أنباء الرسل وأخبارهم ؛ ليكون له آية بينه وبين ربه ؛ ليعلم أن ما أنزل عليه وما يأتي به إنما هو ملك من الله ؛ جاء ليدفع به نوازع نفسه وخطراته ؛ إذ لا سبيل للشيطان إلى معرفة تلك الأنباء ، ولا في وسعه إلقاؤها عليه ، فيكون له بها طمأنينة قلبه ، وهو كقول إبراهيم ؛ حيث قال : (رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى ...) الآية [البقرة : ٢٦٠] ، كأن نفس إبراهيم تنازعه في كيفية إحياء الموتى ، فسأل (١) ربه ليريه ذلك ؛ ليطمئن بذلك قلبه ، وإن كان يعلم أنه يحيي الموتى ، وأنه قادر على ذلك.
والثاني : قص عليه أنباء الرسل واحدا بعد واحد ؛ ليثبت به فؤاده ليعلم كيفية معاملتهم قومهم ، وما ذا لقوا من قومهم ، وكيف صبروا على أذاهم ليصبر هو على ما صبر أولئك ، وليعامل هو قومه بمثل معاملتهم.
ويشبه أن يكون قوله : (ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ) بنبأ بعد نبأ ؛ لتنظر وتتفكر في كل نبأ وخبر ، وتعرف ما فيه ، فيكون ذلك أثبت في قلبه (٢) ، وهو كقوله : (وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ) [الفرقان : ٣٢] بإنزال الآية واحدة بعد واحدة ، وسورة بعد سورة ، وذلك أثبت في فؤاده من إنزاله جملة ؛ لأنه يزدحم في مسامعه وفؤاده ، وإذا كان بالتفاريق نظر وتفكر ، فهو أثبت في قلبه وفؤاده ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُ) قال بعضهم : (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) أي : في هذه الأنباء التي قصها عليك جاءك فيها الحق ، وهو ما ذكرناه.
وقال بعضهم : (وَجاءَكَ فِي هذِهِ) أي : في هذه السورة الحق (٣) ، وهو ما ذكر من
__________________
(١) في ب : نسأله.
(٢) في ب : قوله.
(٣) أخرجه ابن جرير عن كل من :
أبي موسى (١٨٧٥٥ ، ١٨٧٥٦) ، وابن عباس (١٨٧٥٧ ، ١٨٧٦١) ، ومجاهد (١٨٧٦٢ ، ١٨٧٦٥ ، ١٨٧٧٢) ، وسعيد بن جبير (١٨٧٦٦) ، وأبي العالية (١٨٧٦٧) ، والربيع بن أنس (١٨٧٦٨) ، والحسن (١٨٧٦٩ ، ١٨٧٧١ ، ١٨٧٧٥) ، وقتادة (١٨٧٧٣ ، ١٨٧٧٤). ـ