على هذين الوجهين يخرج تأويل الآية ، وإلا لم يجز أن يكون نبي من الأنبياء يكذب من يعلم أنه صادق في خبره وقوله.
فإن قيل في قوله : (وَأَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ) : كيف خاف ذلك وقد قال له يعقوب : (وَكَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلى آلِ يَعْقُوبَ ...) الآية [يوسف : ٦] ؛ أنبأه أنه يجتبيه ويعلمه من تأويل الأحاديث ويتم [عليه نعمته](١) ، فكيف خاف عليه أكل الذئب والضياع ، وذلك لا يحتمل أن يقول له إلا بعلم من الله والوحي إليه؟
قيل : يحتمل أن يكون ما ذكر على شرط الخوف أنه يخاف مما ذكر فيكون له ما قال من الاجتباء ، وتعليم الأحاديث ، وإتمام النعمة عليه.
أو خاف ذلك على ما خافوا جميعا على ما هم عليه من الدين وإن عصموا عما خافوا جميعا ؛ حيث قال إبراهيم : (رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ) [إبراهيم : ٣٥] ، ومعلوم أن إبراهيم لا يعبد الأصنام ، وقال يوسف : (تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ) [يوسف : ١٠١] وأمثاله ، وهو ما ذكرنا في غير موضع أن العصمة لا تزيل الخوف ، ولا تؤمن عن ارتكاب مضاداته ؛ بل يزيد الخوف على ذلك الأخيار والأبرار ؛ كان خوفهم وإشفاقهم على دينهم أكثر من غيرهم ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ).
قال بعضهم : أي : نشتد إلى الصيد (٢).
وقال أبو عوسجة : (نَسْتَبِقُ) هذا من السباق ؛ أي : يعدون حتى ينظروا أيّهم يسبق (٣) ؛ أي : يتقدم من صاحبه ويغلبه في العدو.
وقال القتبي (٤) : (نَسْتَبِقُ) ، أي : ننتضل (٥) ، يسابق بعضنا بعضا في الرمى ؛ يقال : سابقته فسبقته ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ).
الدم لا يكون كذبا ، لكنه ـ والله أعلم ـ جاءوا على قميصه بدم قد كذبوا فيه أنه دم يوسف وأن الذئب أكله (٦) ، ولم يكن.
__________________
(١) في ب : نعمته عليه.
(٢) ذكره البغوي بمعناه (٢ / ٤١٤) ونسبه للسدى.
(٣) في ب : يستبق.
(٤) ينظر : تفسير غريب القرآن (٢١٣).
(٥) انظر تفسير البغوي (٢ / ٤١٤) ، وابن جرير (٧ / ١٥٩) ، والرازي (١٨ / ٨١).
(٦) قال بعض العلماء ـ رضي الله عنهم ـ : لما أرادوا أن يجعلوا الدم علامة على صدقهم ، قرن الله بهذه العلامة تعارضها ، وهي سلامة القميص من التخريق ؛ إذ لا يمكن افتراس الذئب ليوسف وهو لابس ـ