وهو يحتمل هذين الوجهين :
أحدهما : لا تعيير عليكم ولا ملامة ؛ أي ليس عليكم في العقل تعيير ولا ملامة ؛ إذا تبتم وأقررتم بالخطإ ، وهكذا كل من أذنب ذنبا أو ارتكب كبيرة ؛ ثم انتزع عنها وتاب منها ؛ لا يعيّر ـ هو ـ عليه ولا يلام. وكذلك قيل في قوله : (وَلا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ) [الحجرات : ١١] ذكر أنهم كانوا يعبّرون أهل الكفر في كفرهم ؛ وينابزونهم ؛ ثم أسلموا ؛ فنهوا أن ينابزوهم ؛ ويصنعوا بهم مثل صنيعهم بهم في حال كفرهم ، ولو وجب التعيير والملامة بعد الانتزاع عنه والتوبة ؛ أو يجوز ذلك لكان أصحاب رسول الله معيّرين ملامين ؛ لأنهم كانوا أهل الكفر في الابتداء ، فهذا مما لا يحل في العقل.
والثاني : قوله : (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ) : لا أعيّركم ؛ على ما قال ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ أي : لا أذكر ما كان منكم إلينا ؛ أمنهم عن أن يذكر شيئا مما كان منهم إليه ؛ ولذلك قال : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) [يوسف : ١٠٠].
ذكر أن الشيطان هو الذي فعل ما كان بينه وبين إخوته ؛ وكذلك فعل ؛ حيث قال : (مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي) [يوسف : ١٠٠] أضاف ذلك إلى الشيطان ، ولم يضف إلى إخوته.
وقوله ـ عزوجل ـ : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ).
قطع فيه القول بالمغفرة لهم ؛ حين أقروا بالخطايا وتابوا عما فعلوا ، وهكذا كل من تاب عن ذنب ارتكبه ونزع عنه ؛ أن يقطع القول فيه بالمغفرة والرحمة.
وقوله : (يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ) يخرج على الدعاء لهم بالمغفرة ، أو على الإخبار بالوحي أنه يغفر لهم ، أو قد غفر لهم ، أو يقول : استغفروا الله ؛ الذي كان بين الله وبينكم يغفر لكم (١).
(وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) لأن كل من يرحم من الخلائق ؛ إنما يرحم برحمة منه إليه ؛ فهو أرحم الراحمين ؛ بما قلنا ؛ على ما قلنا في قوله : (خَيْرُ الْحاكِمِينَ) [يوسف : ٨٠] و (أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ) [هود : ٤٥] لأن من يحكم من الخلائق بحكم يجوز إنما يحكم بحكم ناله منه.
وقوله ـ عزوجل ـ : (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً).
دل هذا من يوسف ؛ حيث قطع القول فيه أنه يصير بصيرا ؛ إنه عن وحي (٢) قال هذا لا عن رأي منه واجتهاد ؛ إذ قطع القول فيه أنه إذا ألقى على وجهه يصير بصيرا.
__________________
(١) في ب : لهم.
(٢) في أ : عزوجل.