أن ليس يفهم من عظمه ما يفهم من عظم الخلق ؛ إذ لا يجوز في الخلق أن يكون عظيما لطيفا ؛ ويجوز في الله ، ليعلم أن ما يفهم من هذا غير ما يفهم من الآخر. والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ).
أي العليم بما كان ويكون ، وما ظهر وما بطن ، وما يسرّ وما يعلن ، وبكل شيء ، أو عليم بعواقب الأمور وبدايتها ، (الْحَكِيمُ) : حكم بعلم ، ووضع كل شيء موضعه ؛ لم يحكم بجهل ولا غفلة ولا سفه ؛ على ما يحكم الخلق ، تعالى الله ـ عزوجل ـ عن ذلك علوّا كبيرا.
[مسألة](١) : ثلاث آيات في سورة يوسف على المعتزلة : قوله : (وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَ) [يوسف : ٣٣] أخبر أنه لو لم يصرف عنه (٢) كيدهن مال إليهن ، وهم يقولون : قد صرف عن كل أحد السوء والكيد ؛ لكن لم ينصرف عنه ذلك.
وكذلك قوله : (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي) [يوسف : ٥٣] أخبر أنه إذا رحمه امتنع عن السوء والأمر به ، وهم يقولون : إنه ـ وإن رحم ـ لا يمتنع السوء ولا الأمر به.
وكذلك قوله : (نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ) [يوسف : ٥٦] وهم يقولون : ليس له أن يصيب أحدا دون أحد من رحمته ؛ ولا أن يخص أحدا بذلك.
وقوله ـ عزوجل ـ : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ).
قال أبو بكر الأصم : ذكر (مِنَ الْمُلْكِ) ؛ لأنه لم يؤته كل الملك ؛ إذ كان فوقه ملك أكبر منه ، لكن لا لهذا ذكر (مِنَ الْمُلْكِ) ؛ إذ معلوم أنه لم يؤت لأحد كل ملك الدنيا ؛ قال الله تعالى : (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ) [آل عمران : ٢٦] ويكون في وقت واحد ملوك.
وقال مقاتل : (من) صلة : كأنه قال : رب قد آتيتني من الملك. لكن الوجه فيه ما ذكرنا.
وقوله : (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ ...) إلى آخر ما ذكر ، قدم دعاءه ؛ وسؤاله ربه ما سأل ؛ إحسانه إليه ومحامده وصنائعه ؛ ليكون ذلك [له وسيلة](٣) إلى ربه في الإجابة.
وفي ذلك دلالة نقض قول المعتزلة من وجهين :
أحدهما : يقولون : إن كل أحد شفيعه عمله ؛ فيوسف لم يذكر ما كان منه : أني فعلت
__________________
(١) بياض في ب.
(٢) في أ : عنى.
(٣) في ب : وسيلة له.