وقوله : (سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ) تأويله ـ والله أعلم ـ أن في الشاهد من اتخذ ولدا إنما يتخذ لأحد وجوه ثلاثة : إما لحاجة تمسه ، أو لشهوة تغلبه ، أو لما يستنصر به على آخر ممن يخافه ، فإذا كان له ملك السموات والأرض وملك ما فيهما كلهم عبيده وإماؤه ، فلا حاجة تقع له إلى الولد ؛ إذ هو الغني وله ملك ما في السموات والأرض ومن هذا وصفه فلا يحتاج إلى الولد ، ولأنه لا أحد في الشاهد يحتمل طبعه اتخاذ الولد من عبيده وإمائه ، فإذا كان لله سبحانه الخلائق كلهم عبيده وإماؤه كيف احتمل اتخاذ الولد منهم لو جاز وقد بينا إحالة ذلك وفساده.
ولأن الولد يكون من شكل الوالد ومن جنسه كالشريك يكون من شكل الشريك ومن جنسه فكان في نفي الشريك نفي الولد ؛ لأن معناهما واحد وكل ذي شكل له ضدّ ومن له ضد أو شكل فإنه لا ربوبية له ولا ألوهية.
[وقال بعضهم : قولهم : اتخذ الله ولدا ، لم يريدوا حقيقة الولد ، ولكن أرادوا منزلة الولد وكرامته ، فهو ـ أيضا ـ منفي عنه ؛ لأن من لا يحتمل الحقيقة ـ أعني : حقيقة
__________________
ـ «الأب» على «المبدئ» ، فمعنى قوله : «أبي» : مبدئي وموجدي ، وسمى عيسى ابنا ؛ تشريفا له كما سمى إبراهيم خليلا.
وأيضا فمن كان متوجها لشيء ومقيما عليه يقال له : ابنه ، كما يقال : أبناء الدنيا وأبناء السبيل ؛ فجاز أن تكون تسمية عيسى بالابن ، لتوجهه في أكثر الأحوال إلى الحق واستغراقه أغلب الأوقات في جناب القدس ، ومما يؤكد ذلك : أنه جاء في الإصحاح السابع عشر من إنجيل (يوحنا) حيث دعا عيسى للحواريين ، ما لفظه : (وكما أنت يا أبي بي وأنا بك فليكونوا هم أيضا نفسا واحدا لزمن أهل العلم بأنك أنت أرسلتني ، وأنا قد استودعتهم بالمجد الذي مجدتني به ودفعته إليهم ؛ ليكونوا على الإيمان كما أنا وأنت أيضا واحد ، وكما أنت حالّ في كذلك أنا فيهم ليكون كمالهم واحدا) هذا لفظ الإنجيل ، وقد تبين منه معنى الاتحاد والحلول على وجه مغاير لما فهموه وجاء في الإصحاح التاسع عشر ما لفظه : (إني صاعد إلى أبيكم وإلهي وإلهكم) وهذا يدل بواسطة العطف على أن المراد من الأب : الإله ، وعلى أنه مساو لهم في معنى البنوة والعبودية.
فهذه النصوص تدحض حجتهم ، وتلزمهم إذا أرادوا الحق بالرجوع إلى ما قضت به الأدلة العقلية المتقدمة من استحالة الاتحاد والحلول والبنوة.
أما بعض اليهود الذين قالوا : إن عزيرا ابن الله فقد أشار الله تعالى إليه بقوله : (وَقالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ) نسب الله ذلك القول إلى اليهود مع أنه قول لطائفة منهم ؛ جريا على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد ، والسبب الذي دعا هذه الطائفة إلى القول بأن عزيرا ابن الله : أن اليهود تركوا العمل بما في التوراة وعملوا بغير الحق ؛ فعاقبهم الله تعالى بأن أنساهم التوراة ونسخها من صدورهم ؛ فتضرع عزير إلى الله وابتهل إليه ؛ فعاد حفظ التوراة إلى قلبه ، فأنذر قومه به ، فلما جربوه وجدوه صادقا فيه ، فقالوا : ما تيسر لهذا العزير دون سواه إلا لأنه ابن الله. وهذه شبهة واهية لا يصح الاستناد إليها ؛ لأن إجابة المطلب مرتبطة بالقبول والقرب من الله والخضوع لأوامره واجتناب نواهيه ، لا بالبنوة كما يزعمون.
ينظر : الدرر السنية في تنزيه الحضرة الإلهية لأحمد المستكاوي ص (٣٢ ـ ٣٥).