وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقالَتِ الْيَهُودُ ...) [البقرة : ١١٣] كذا ، (وَقالَتِ النَّصارى ...) [البقرة : ١١٣] كذا فنزه ـ عزوجل ـ نفسه عمّا قالوا (١) بقوله : (سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُ) أنه لم يلد أحدا ولا ولد هو من أحد ؛ ولهذا قال : (لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ) [الإخلاص : ٣] ؛ إذ في الشاهد لا يخلو إما أن يكون ولد من آخر أو والد ، والخلق كله لا يخلو من هذا ، فأخبر أنه لم يلد هو أحد ولا ولد من أحد.
__________________
(١) نقل عن طوائف النصارى القول بالاتحاد ، وعن بعضهم القول بالحلول ، وعن بعضهم القول بأن عيسى ابن الله ، وعن بعض طوائف اليهود القول بأن عزيرا ابن الله.
واختلف النقل عن النصارى في معنى الاتحاد : فقيل : معناه : أن الكلمة ـ وهي صفة العلم ـ ظهرت في عيسى وصارت معه هيكلا ، وقيل : معناه : المخارجة ، بمعنى أنه تكوّن من الكلمة وعيسى شيء ثالث.
وأما القول بالحلول فمعناه على رأى بعض فرقهم : أن الكلمة ـ وهي صفة العلم ـ حلت في المسيح ، وعلى رأى البعض الآخر : أن ذات الله حلت في المسيح.
ولما كان كلامهم في الحلول والاتحاد مضطربا وغير منضبط على وجه صحيح نذكر الصور العقلية التي تتأتى في الاتحاد والحلول ، فنقول :
إما أن يقولوا باتحاد ذات الله بالمسيح ، أو حلول ذاته فيه ، أو حلول صفته فيه ، وكل ذلك إما ببدن عيسى أو بنفسه ، وإما ألا يقولوا بشيء من ذلك ، وحينئذ فإما أن يقولوا : أعطاه الله قدرة على الخلق والإيجاد أو لا ، ولكن خصه الله بالمميزات وسماه ابنا تشريفا كما سمى إبراهيم خليلا ، فهذه ثمانية احتمالات كلها باطلة ؛ للأدلة التي أحالت حلول الله واتحاده والسابع باطل ؛ لما ثبت أنه لا مؤثر في الوجود إلا الله ، وبقي احتمال اتحاد الكلمة بذات المسيح ، وهو باطل أيضا ؛ لأن الكلمة المراد منها عندهم صفة العلم ، والاتحاد بجميع معانيه وأفراده مستحيل على الله بالأدلة السابقة.
والشبهة التي أوقعت النصارى في هذه الكلمات هي ما جاء في الإنجيل في عدة مواضع من ذكر الله بلفظ الأب ، وذكر عيسى بلفظ الابن ، وذكر الاتحاد والحلول تصريحا أو تلويحا ، فمن ذلك ما جاء في إنجيل (يوحنا) في الإصحاح الرابع عشر : (يا فيلسوف ، من يراني ويعاينني فقد رأى الأب ، فكيف تقول أنت : أرنا الأب ، ولا تؤمن أني بأبي وأبي بي واقع واقع ، وأن الكلام الذي أتكلم به ليس من قبل نفسى ، بل من قبل أبي الحال فيّ ، وهو الذي يعمل هذه الأعمال التي أعمل ، آمن وصدق أني بأبي وأبي بي).
هذا لفظ الإنجيل المنقول إلى العربية المتداول عندهم ، فأخذ بعضهم الاتحاد من قوله : (من يراني ويعاينني فقد رأى الأب) ، وأخذ بعضهم الحلول من قوله : (أبي الحال فيّ) ، وأخذ البنوة من التصريح بلفظ الأب مرة بعد أخرى ، وهذا لا يصلح دليلا ؛ لوجهين :
الوجه الأول : توافرت الأدلة على حصول التغيير والتبديل في الإنجيل ، فاحتمل أن يكون ذلك المذكور في إنجيل (يوحنا) مما حصل فيه التغيير والتبديل ؛ فلا يصلح حينئذ أن يكون دليلا فلا يصح به الاستدلال.
الثاني : أن نتنزل ونقول : لا تغيير ولا تبديل في ذلك المنقول ، لكن دلالته على مدعاهم ليست يقينية ؛ لجواز أن يكون المراد من الاتحاد الذي فهمه بعضهم من الجملة الأولى : الاتحاد في بيان طريق الحق ، وإظهار كلمة الصدق ؛ كما يقال : أنا وفلان واحد في هذا القول ، ولجواز أن يكون المراد من الحلول المصرح به في بعض الجمل : حلول آثار صنع الله من إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص ، ولجواز أن يكون المراد من الأب : المبدئ ؛ فإن القدماء كانوا يطلقون ـ