فيبقى الباقي على الوجوب. ثمّ خاطبهم الله تعالى مرّة أخرى فقال :
(يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ) أي لا يضلّنّكم عن الدين ، ولا يصرفنّكم عن الحقّ بأن يدعوكم إلى المعاصي الّتي تميل إليها النفوس.
(كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ) كما محن أبويكم بأن أخرجهما منها ، ومحلّه النصب على المصدريّة : أي فتنة مثل إخراج أبويكم لأنّ هذا الإخراج نوع من الفتنة في أولاده.
(يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما) جملة حالية من أبويكم أو من فاعل أخرج ، واسناد النزع إليه لكونه سببا وصحّ أنّ ينهى الإنسان بصيغة النهي للشيطان لأنّه أبلغ في التحذير من متابعيه والافتتان به وفيها إيماء إلى أنّ انكشاف العورة وإن كان بين الزوجين لا يخلو من فضيحة وقبح.
(إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ) تعليل للنهى وتأكيد للتحذير من فتنته فإنّ من هذا حاله فليتحفّظ منه كمال التحفّظ : أى يكيدون ويغتالون من حيث لا يشعرون بهم.
واستدلّ به صاحب الكشّاف على أنّ الجنّ لا يرون ولا يظهرون للأنس ، وأنّ إظهارهم أنفسهم ليس في استطاعتهم ، وإنّ زعم من يدّعى رؤيتهم زور ومخرقة ، وفيه نظر ظاهر.
(إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ) أى خلينا بينهم وبينهم ولم نكفهم عنهم حتّى تولّوهم وأطاعوهم فيما سولوا لهم من الكفر والمعاصي واتّبعوهم لأنّهم يتناصرون على الباطل ، وهذا تحذير آخر للمؤمنين من متابعة الشيطان أبلغ من الأوّل لتضمّنه أنّ من تابعه فقد اتّخذه وليّا ، وفيهما أيضا مبالغة في وجوب استتار العورة. فتأمّل.
الثانية : (يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ) (١).
__________________
(١) الأعراف ٣١.