فإنّ المأمور به أصل العبادة المشترك بين بدؤها والزيادة فيها والمواظبة عليها فالمطلوب من الكفّار الشروع فيها بعد التلبّس بما يتوقّف عليه الصحّة من الإيمان المشتمل على معرفة الصانع والإقرار به ، إذ من لوازم وجوب الشيء وجوب ما لا يتمّ إلّا به فكما أنّ الحدث لا يمنع وجوب الصلاة فكذا الكفر لا يمنع وجوب العبادة فيجب رفعه والاشتغال بها عقيبه ، ومن المؤمنين ازديادهم من العبادة وثباتهم عليها ، ولا يرد بعد تناول الأمر لشيئين لأنّ الازدياد من العبادة عبادة كما أشرنا إليه ، وقد ظهر ممّا ذكرنا أنّ الكافر مكلّف بالفروع.
(الَّذِي خَلَقَكُمْ) أى أوجدكم على تقدير واستواء بعد إن لم يكونوا موجودين وهو صفة ربّكم جرت عليه للتعظيم والتعليل ، واحتمل البيضاوي والكشّاف كونها للتقييد إن كان الخطاب للمشركين وأريد بالربّ ما هو أعمّ من الربّ الحقيقيّ والآلهة الّتي يسمّونها أربابا.
(وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ) منصوب بالعطف على الضمير المنصوب : أي خلقكم وخلق من تقدّمكم سواء كان تقدّما بالذات أو بالزمان ، والخطاب مع الكفرة على هذا الوجه إمّا لاعترافهم به كما قال تعالى (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ) أو لتمكّنهم من العلم بأدنا نظر.
(لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) أى خلقكم لتتّقوه وتعبّدوه كقوله تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَ
__________________
ـ ولذا قال : مكي هذا إنما هو في الأكثر وليس بعام وفي كثير من السور المكية يا أيها الذين آمنوا انتهى ، والأقرب تنزيل قول من قال مكي أو مدني على أنه خطاب المقصود به أو جل المقصود به أهل مكة يا أيها الذين آمنوا كذلك بالنسبة إلى أهل المدينة : وفي تفسير الرازي عن علقمة والحسن أن ما في القرآن يا أيها الناس مكي ، وما كان يا أيها الذين آمنوا فبالمدينة وإن القاضي قال : إن كان الرجوع في هذا إلى النقل فمسلم ، وإن كان السبب فيه حصول المؤمنين بالمدينة على الكثرة دون مكة فضعيف إذ يجوز خطاب المؤمنين بصفتهم واسمهم وجنسهم ، ويؤمر غير المؤمنين بالعبادة كما يؤمر المؤمنون بالاستمرار عليها والازدياد منها اه. انتهى ما في البرهان.