وقصد القربة معنى تشريعي ، والاقتراب معنى تكويني ، ولا منافاة بينهما ، لأن الإنسان ينبغي أن يقصد القربة لكي يقترب. فيكون ذاك مقدمة لهذا.
ومقدمة الاقتراب التكويني هو السجود ، وهو غاية الخضوع لله عزوجل. وكلما خضع أكثر اقترب أكثر. فقوله : اقترب (معلول) وقوله : (اسجد) علة. وقد ذكر العلة قبل المعلول ، وهو السياق الطبيعي فقال : واسجد واقترب. يعني اسجد لكي تقترب.
ولا يقال : إن اقترب فاعله العبد ، وهو قصد القربة ، أما إذا كان المراد الاقتراب التكويني أو الثبوتي ، لكان الفاعل هو الله جل شأنه ، فيكون المعنى : اسجد فتقرب. كقوله تعالى : (ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ). فهو فعل الله ، فيكون هذا قرينة على قصد القربة ، لا على الاقتراب التكويني.
ولكن هذا قابل للمناقشة ، لأن القدرة على المقدمة قدرة على النتيجة. فكأن العبد يطلب من الله سبحانه أن يفتح له باب الاقتراب ، وذلك بإيجاد العبادة ، بفعله الاختياري. فيكون المعنى : اسجد وبفعلك للسجود اقترب ، وبتعبير آخر : إن المأمور به هو المجموع وليس واحدا منهما. يكفينا من ذلك أن كلا اللفظين ، بفعل الأمر : (وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ).
وإذا تنزلنا عن ذلك ، وقلنا بأن الاقتراب بفعل الله تعالى. فيقع تعارض بالقرائن المتصلة بين أمرين : من حيث إن اقترب ظاهر بالتقرب التكويني ، وإن الفاعل هو العبد ، وليس هو الله تعالى. مع العلم أننا نعلم خارجا أن العبد لا يستطيع أن يقترب تكوينا ، بل هو فعل الله سبحانه.
وجواب ذلك من وجوه :
الوجه الأول : أن نتنزل عن المقدمة الأخيرة ، ونقول : إن العبد ، يستطيع عرفا أن يتقرب تكوينا ، ولو إلى درجة معتدّ بها. ويكون هذا هو المقصود.
الوجه الثاني : أن يقع التعارض بينها ، فنقدم ما هو الأرجح والأظهر لفظيا. وهي مادة الاقتراب التي تدل على الاقتراب التكويني ، ويكون إسناده إلى العبد مجازيا.